المجتمعات يعلو شأنها بما تمنحه لأضعف فئاتها من رحمة وعدالة ورعاية ولأهل المريض والمُعاق والمسن وأولئك الذين يحملون أبنائهم على أكتافهم من مستشفى الى آخر ، والذين يبذلون أعمارهم في خدمة من أحبوا ، وهؤلاء هم المجاهدون الحقيقيون الذين يخوضون صراعات يومية صامتة لا تُدون في كتب التاريخ ، ولكنها تُكتب في أعمارهم ، وفي أرواح وأنفس من يُرافقونهم ، هؤلاء يعرفون أن الرعاية ليست رفاهية بل معركة يومية ، وأن الألم ليس علة الجسد فقط بل علة المنظومة الصحية التي تُقهرهم وتُقسرهم على الصبر أكثر مما يجب ، والصحة لا تحتاج الى تجميل بل الى مصارحة أن النظام الصحي منهك والأطباء يعملون بأقل ما يستحقون ، والمرضى كثيرون بأكثر ما يحتملون ، ومستشفيات ومرافق صحية تتوزع بين نقص الإمكانيات وغياب الإدارة وضياع القرار ، فلا تُقاس الدول إلا بقدرة نظمها الصحية على حماية صحة الإنسان وتعزيزها وتحسينها له ، وبقوة شبكات الحماية الاجتماعية فيها ، والحماية الاجتماعية الحلقة الأكثر ضعفا وأنينها يٌسمع في كل بيت أرملة بلا معاش يكفي ، ومتقاعد يعيش على الفتات ، وشاب عاطل عن العمل ، وأسرة تغرق في دوامة الايجار والدواء ونفقات المعيشة ، وتقاس بما تفعله لأجل الأطفال الذين لا صوت لهم ، والمسنين الذين خفتت أصواتهم ، والمرضى الذين يعجزون عن توفير العلاج ، وما يهدد الفئات الهشة ليس المرض والفقر فقط ، بل تسليع الصحة والتعليم ، وحين يتحول العلاج إلى صفقة ويصبح ميزان لقدرة الدفع وامتياز لمن يملك وليس لمن يستحق ، وتتحول الرعاية إلى رفاهية وليس حق أصيل ، وحين تُقاس قيمة الإنسان بما يملك لا بما يستحق يصبح المجتمع هش مهما بدا شامخ ، والمجتمع القوي هو الذي يرفع أضعف مواطنيه لا الذي يتكئ على أقواهم ، والقوة الحقيقية تقاس بقدرة حماية الطفل الذي لم يولد بعد والمريض الذي ينتظر سرير ، والمسن الذي يقف في طابور معاشه ، والمعلم الذي يحمل البلاد على سبورة متهالكة ، والدولة العادلة هي التي تقف حيث يقف المظلوم لا حيث يقف المتخم ، والنهضة الحقيقية تبدأ حين لا يُترك مريض بلا دواء ، ولا مُقعد بلا مُعين ، ولا فقير بلا حماية ، ولا طفل بلا تعليم كريم ، عندها تصبح كل حلقة ضعيفة جزء من سلسلة لا تنكسر ، وبلادنا للأسف تتسع فيها الفئات الهشة كل يوم ليس لأن الضعف خٌلق فيهم بل لأن المرض يُضعف من حوله ، والمسن يحمل ثقل الزمن وحده ، والمعاق يجر خلفه عجز المؤسسات وليس عجز جسده ، والفقير يبحث عن دواء لا يجده وغذاء لا يكفيه وعن أمل يليق به ومسروق منه ، والفقر الصحي والظلم الصحي منظومة كاملة حين تنهك وتسقط على رؤوس الذين لا صوت لهم ، ومرضى لا يسمعهم أحد ، ومسنون يتكئون على عصي أنهكتها الطوابير والانتظار ، وعائلات تتحول فيها غرف المعيشة لعناية مركزة بلا أجهزة ، والنهضة هي تصحيح حقيقي لكل هذا وتقوية لكل حلقة ضعيفة حتى تصبح البلاد سلسلة قوية لا تنكسر مهما ثقلت الأعباء .
الصحة والحياة والكرامة حق
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية