إطلالة
جمال الزائدي
في رائعته الخالدة ” مدن الملح” الصادرة في ثمانينيات القرن المنصرم إستطاع الروائي السعودي عبد الرحمن منيف على مدى خمسة أجزاء من النثر الممتع المتصل ..تتبع ورصد التحولات الكبرى التي شهدها مجتمع الجزيرة العربية الرعوي الزراعي بعد ظهور البترول من خلال نص سردي ينحاز إلى المدرسة الواقعية و يرقى لولا لغته الأدبية الفذة الى مستوى الدراسة الاجتماعية الشاملة التي يمكن الركون إليها لاستخلاص النتائج والحقائق .. غير ان الفن ليس من مهامه ان يقدم هذه الخدمة العلمية مباشرة للأسف ..
مع اللذة الكبرى التي تتحصل عليها كقارئ لهذا العمل السردي الملحمي .. فإنك ستتعرف على لوحات طازجة من حياة جماعة بدائية عصفت بها رياح التغيير على حين غرة لتلقي بها في أتون حياة أخرى أكثر تعقيدا واضطرابا ..هناك في سطور الرواية المنسوجة فصولها بحرفية عالية تكتظ التفاصيل المبهرة عن بيئة الصحراء النقية ومعيشة سكانها المتواضعة والثرية بعفويتها وأفقها الشاسع في ذات الآن..
للمفارقة فإنني أمتلك نسخة ورقية لهذه الرواية منذ ما يزيد عن الخمس عشرة سنة ولكن للظروف الصعبة المتداخلة والانتقال في سكناي من مكان إلى مكان لأكثر من مرة ، فإنني لم أجد الوقت ولا الرغبة لقراءتها سوى في الأشهر الأخيرة ..وكان هذا مدعاة للندم لأنني تأخرت كل هذا الوقت ..
في كل جزء من الأجزاء الخمسة للرواية ..بطل وراوي رئيسي وشخوص أخرى تمد اللغة خيوطها بينها لتجمعها في حكاية واحدة مطردة سلسة ، تروي ملحمة التغيير والتطور المفروض فرضا بسبب مجئ الاغراب واكتشاف النفط و الفائض النقدي الذي فتح شهية الناس البسطاء على الاقتناء والبحث عن الثراء وزاد في وتيرة الاستهلاك دون أن يؤثر ذلك جوهريا في البنية الاجتماعية والقيمية التي ظلت تنتمي إلى بساطة مستعارة من بداوة سابقة ونمط انتاجي تجاوزته آلات الحفر العملاقة في بطن الصحراء وهي تستخرج السائل الأسود اللعين ..
الرسالة أو الموعظة الكبرى التي تهديها هذه الرواية للقارئ أن البطل الحقيقي في عوالم السرد كما في العالم الواقعي هو التغيير ونواميسه .. وأن الثابت الوحيد في هذا الوجود هو التطور وقوانينه ..