كتبه فريديريك بوبان
أخذ جرس الانذار يدق بشدة في واشنطن، حول :”التدفق الروسي، الذي من شانه زعزعة استقرار المنطقة”، وحول حجم “التأثيرات الخطرة لذلك”، أو “التهديد الأمني للطرف الجنوبي لأوروبا”، وأن “روسيا تصب الزيت على النار في ليبيا”….. حيث ما أنفكت تحذيرات المسؤولون الأمريكيون تتضاعف خلال الأسابيع الأخيرة، بشأن الدور المتنامي الذي صارت تلعبه موسكو في ليبيا.
هذه “الصحوة” الأمريكية تجاه القضية الليبية، والتي أخذت تبلور منذ مطلع هذا العام نشاطاً دبلوماسياً غير مسبق، تأتي بعد إنسحاب دام لفترة، أثر صدمة الهجوم الجهادي، الذي تم في 11 سبتمبر 2012 ضد قنصليتهم في بنغازي، والذي تسبب في مقتل السفير كريستوفر. يشرح فريديريك ويري، الباحث في مركز كارنيجي إندومينت للسلام الدولي، في هذا الصدد: “إنها نقطة تحول مهمة”. فهذا التجديد المفاجئ في مسرح كان قد تلحف لفترة غير قصيرة بأشباح بنغازي، يأتي كردة فعل لما تكشف لهم عن وصول المرتزقة الروس لليبيا. وحيث رصدوا في خريف عام 2019 – وصول ما بين 800 و 1200 – مرتزق تابع للشركة الأمنية فاغنر، ذات الصِّلة بموسكو. والذين انخرطوا مع قوات الجنرال حفتر في معركة طرابلس، التي انطلقت في أبريل 2019.
ومنذ الهزيمة التي تكبدها حفتر في أوائل يونيو على أبواب العاصمة، وانسحابه إلى معقله التاريخي في برقة (شرق) ، إستمر الأمريكيون يتابعون عن قرب خريطة انتشار الوجود الروسي في شرق ليبيا. والذي يبدو أنه قد أخذ في التزايد وبشكل نوعي.
وهكذا أدانت أفريكوم، في 29 مايو وصول “ما لا يقل عن أربعة عشر ميج -29” و “عدة سوخوي -24” من روسيا، عبر سوريا، وصولاً إلى ليبيا. وكيف أن كل هذا العرمرم من الطائرات “قد أعيد طلاؤها لتمويه أصلها الروسي”. ثم نشرت أفريكوم بعد ذلك في 18 يونيو، صورة اخذت عبر الأقمار الصناعية لطائرة ميج -29 متمركزة في قاعدة الجفرة، مشددة على أنه سبق وأن تم تصوير طائرة ميج -29 أخرى بالقرب من سرت. وهو الأمر الذي يعني أن الأمريكان لم يعودوا يخفون انزعاجهم من الموضوع .
ولكن، هل كان يخطر على بال واشنطن قبل عام، أن حفتر، الذي كان يحظي برضى العديد من المسؤولين الأمريكيين، هو من سيفرش الطريق أمام الروس لدخول ليبيا؟ فعندما شن حفتر في 4 أبريل 2019 هجومه على حكومة الوفاق الوطني لفائز السراج، والمتمركزة في طرابلس، لم يعنفه دونالد ترامب. بل على العكس تماما. سيجري الرئيس الامريكي بعد حوالي عشرة أيام من الهجوم، إتصالاً هاتفيا مع حفتر – وليس مع السراج، الذي يحظى بالاعتراف الدولي – للثناء على “دوره المهم” في مكافحة الإرهاب، وفي “تأمين موارد البلاد النفطية”. ففي ذلك الوقت، لم يجد البيت الأبيض مأخذاً على ذلك الهجوم ، الذي دمر وساطة الأمم المتحدة، بل بدا وكأنه قد وافق عليه سراً. كتبت صحيفة نيويورك تايمزحول الموضوع: أن جون بولتون، مستشار الأمن القومي آنذاك ،كان قد قدم لحفتر هذه النصيحة قبل الهجوم بأيام قليلة: “إذا كنت تريد الهجوم، فقم بذلك بسرعة”، وهي النصيحة التي كانت بمثابة ضوء أخضر أمريكي للجنرال.
في حقيقية الأمر يعتبر حفتر صديق قديم للولايات المتحدة. وهو يحمل الجنسية الأمريكية، التي اكتسبها خلال منفاه في أمريكيا والذي استمر لمدة عشرين عامًا (1991-2011) . وحيث كان يقيم في فولز تشيرش، في فيرجينيا. في منطقة سكنية فاخرة على بعد خطوات من مقر وكالة المخابرات المركزية.
هل هي صدفة جغرافية؟
ليس سراً أن حفتر كان “احد مصادر المخابرات الأمريكية”. وذلك منذ الهزيمة الفادحة التي تلقاها حفتر عام 1986 في رمال تشاد، عندما كان يقود الفيالق الليبية التي كانت تقاتل ضد نظام حسين حبري، المدعوم من باريس. والتي تسببت في غضب القذافي وسحب ثقته منه، رغم أنه كان مقرباً جداً إليه وهنا ألتحق حفتر بصفوف المعارضة، وأخذ يخطط من الأراضي التشادية، وبدعم من أمريكيا، في الإنقلاب على النظام في ليبيا. ولكن أمام فشل هذه المحاولة الانقلابية إضطرت وكالة المخابرات المركزية الى نقله الى أمريكيا.
هذه العلاقة الوثيقة بين الطرفين ستستمر مع الزمن. وهي ستأتي بثمارها بعد فترة طويلة، بإعتقال القوات الخاصة الأمريكية أحمد أبو خطالة في بنغازي عام 2014، وهو أحد الجهاديين المتورطين في اغتيال السفير كريستوفر ستيفنز قبل عامين في نفس المدينة. حيث أكد مسؤول أميركي سابق بأن “أحد المقربين من حفتر هو من وفرّ كافة الدعم لمكتب التحقيقات الفدرالي للق على أبو خطالة”.
عشية هجوم حفتر على طرابلس، هذه العلاقة الوثيقة مع واشنطن ستأخذ بعدًا جديدًا له أهميته الخاصة، وذلك وفق ما تفرضه طبيعة الجغرافيا السياسية الإقليمية. حيث ستقوم دولتان من حلفاء واشنطن الرئيسيين في المنطقة، وهما مصر، ولكن بشكل خاص الإمارات العربية المتحدة، بالدفاع وبقوة عن قضية حفتر أمام دوائر السلطة في واشنطن، وحيث ستقدمانه باعتباره السد الذي سيقف أمام مخططات الإخوان المسلمين، وأمام التغول الإجرامي الذي صارت تمارسه الميليشيات المحيطة بالسراج في طرابلس.
يشرح فريدريك ويري بالخصوص: “في ذلك الوقت كان هناك تعاطف أو تفاهم ضمني في واشنطن مع أهداف هجوم حفتر”. على وجه الخصوص، يبدو أن الدبلوماسيين الأمريكيين يعطون مصداقية لمضمون الخطاب الذي كان يأتي مباشرة من أبو ظبي، والذي يرى أن جوهر المشكلة الليبية يعود إلى ” الميمات الثلاثة ” (3M) : المسلمون (الأخوان)، والمال والميليشيات. وذلك دون الأخذ في الإعتبار بالانجراف العسكري والاستبدادي للمشير نفسه، الذي يغض الغربيون الطرف عنه.
غير أن وصول مرتزقة فاغنر إلى طرابلس سرعان ما سيغير من اتجاه الخطاب في واشنطن. وإذا ما استمر ظهور بعض التنازلات الخطابية لـنظرية “الميمات الثلاث” – “ربما لإبقاء الإماراتيين إلى جانبهم”، وفق وجهة نظر م. ويهري – فإن المسؤولين الأمريكيين صاروا يسلطون الأضواء الآن بشكل خاص على الخطر الاستراتيجي الروسي في ليبيا.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن انتقادات هولاء تجنبت التعرض للتدخل التركي، كما لو كانوا راضين سراً عن دور أنقرة في سد الطريق امام روس فاغنر نحو طرابلس. بل أن السفير الأمريكي في ليبيا ريتشارد نورلاند ذهب للتأكيد للصحافة على: “إن التصعيد الحقيقي قد بدأ في أكتوبر 2019 بتدخل فاغنر”. وأن التدخل التركي “كان رداً على ذلك”.
من خلال تقديم موقف أنقرة على أنه “ردة فعل” بحت، ترسم واشنطن وجهة جديدة لبوصلتها السياسي، والتي تبرز موقفاً مختلفاً عن موقف باريس، الذي يتم تعبئته بشكل رئيسي ضد السلوك “العدواني” لتركيا قبالة الساحل الليبي، وذلك دون الإشارة لا من قريب أو من بعيد، للوجود الروسي. في هذا الصدد يلاحظ بيير رازو، مدير الأبحاث في معهد البحوث الإستراتيجية في المدرسة العسكرية (إرسم)، أن “الولايات المتحدة لن تغضب من تركي”. إن في هذا خيار استراتيجي، “لأن تركيا تمثل بالنسبة لهم أفضل حصن ضد روسيا، أو حتى غدًا ضد الصين”.
على أن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: إلى أي مدى ستكون واشنطن مستعدة للذهاب، إذا قام الروس بتعزيز وجودهم في برقة؟
في الوقت الحاصر، ما يمكن أن نؤكد بشأنه هو أن التقارب مع حكومة الوفاق الوطني بات واضحاً. وأن السفير نورلاند ما انفك يعلن اهتمامه بفايز سراج، ويشيد “بإسهاماته في هزيمة الإرهاب”.
ولكن، وخلافا لانفصالهم العام عن المسارح الخارجية، هل سيستجيب الأمريكيون أخيرا لدعوة فتحي بشاغا، وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني، الذي ابدى في فبراير الماضي استعداداً لمنحهم “قاعدة عسكرية في ليبيا” ؟؟؟
تتكهن ديبورا جونز، السفيرة الأمريكية السابقة في ليبيا: “إذا كان الروس سيقيمون قاعدة في برقة في سياق التقسيم الفعلي لليبيا، أعتقد أننا سنفكر بجدية في إقامة وجود دائم في غرب ليبيا”.
على أن هذا السيناريو في هذه المرحلة لا يتعدى كونه رسماً افتراضياً للغاية. لكن عودة أمريكا القوية إلى القضية الليبية ليست على الإطلاق افتراضية.
———-
ينشر باتفاق مع الكاتب وصحيفة اللوموند