منصة الصباح

فواتير للعطس

بقلم / عبد الرزاق الداهش

لا أدري ماذا حلّ بمصنع الزاوية لصناعة الأجهزة المرئية، ولكني أثق جدا أن آلية تجميع هذه الأجهزة هي روشيتة حل.

فكم من مرة استدعت ذاكرتي، زيارة كنت قد أديتها ذات فضول معرفي إلى مصنع تلفزيونات قاريونس.

كنت اتابع بانتباه شديد عملية  تجميع الجهاز، التي كانت تجري على نحو سلس، ومنظم بدقة صارمة.

كانت مجموعة من الفتيات، يرتدين المعاطف السماوية، ويجلسن حول طاولة دائرية، تأخذ معظم مساحة الصالة الواسعة.

كانت الأولى على رأس الطاولة تسحب شاسي من علبة قريبة، وهي لوحة او قاعدة يتم عليها تثبيت كل المكونات الدقيقة، والمكثفات، ثم تدفعها باتجاه زميلتها المجاورة له، لتتولى وضع أحد المكونات في مكانه المحدد، ثم إلى ثالثة لتضع مكون آخر، وهكذا يتشكل الجهاز بين العاملات.

يلي ذلك مرحلة تثبيت المكونات باللحام، داخل بيت زجاجي، قبل تركيب الشاشة، والجسم الخارجي للجهاز، وبعض المكونات ثم عملية التغليف، لتنتهي الدائرة بوضع الجهاز بعد اختباره، في صندوق كرتون كمنتج جاهز للتسويق.

الذي جمع كل الفتيات العاملات بالتأكيد ليس الشكل الواحد، أو التفكير الواحد، أو حتى الهم الواحد، بل الهدف الواحد، أي صناعة التلفزيون.

فقد تكون كل واحدة مختلفة مع الأخرى، وكل واحدة لا تطيق الأخرى، ولكن ليس مطلوب من كل عاملة إلا القيم بدورها داخل المنظومة، والمطلوب ليس الاجتهاد، بل العمل.

هذه العملية المنسقة، من أول مكون، إلى وضع الشريط اللاصق، على صندوق الجهاز، تطرح كم سؤالا، أو كم فرضية.

لو افترضنا أن واحدة من العاملات لم تقم بدورها في هذه المنظومة المتكاملة، وغفلت عن وضع المكون الخاص بها، في المكان الخاص به، بسبب نوبة عطس مفاجئة، أو أي عارض، فما هي النتيجة المتوقعة؟

النتيجة هي جهاز غير صالح للاستعمال، أو بكفاءة أقل على أفضل تقدير، وهو ما يعني أن جهد خمسين، أو ستين عاملة قد ضاع في عطسة.

لو افترضنا أن إحدى العاملات كانت تتأخر عن القيام بمهمتها، وبلغ مجموع الوقت المهدور عشر دقائق، فما هي المحصلة المتوقعة؟

المحصلة هي ستمئة دقيقة وقت مفقود، كما لو أن كل العاملات الستين متراخيات، رغم أن المتكاسلة هي عاملة واحدة فقط.

لو افترضنا أن إحدى العاملات قد حاولت أن تعمل بنشاط أكثر، وعن غير كل العاملات، فما هي القيمة المضافة التي يمكن أن تحققها؟

الحقيقة أن شيئا لن يتحقق، لأن رتم العمل في المنظومة سوف يكون خاضعا لحركة سير، الأكثر كسلا، والعاملة الأقل أداءً.

والحقيقة الأهم أن ليبيا حتى ولو كانت، موحدة مؤسساتيا، فبدون الجميع لا شيء سوف يتحقق.

الفرد الواحد، أو الطرف الواحد يمكن أن يعرقل، يمكن أن يخرب، ولكنه لن يستطيع بمفرده أن يقدم ما هو أضافي مهما كان حريصا.

لا يمكن أن تكون المؤسسات الليبية جزرا معزوله، وكل مؤسسة تمارس العزف المنفرد على أوتار مقطوعة.

ستكون المنظومة مضروبة، وستكون المحصلة تحت الصفر، وستكون الموسيقا نشازا.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …