زايد…ناقص
جمعة بوكليب
التقدمُ صعوداً في سلالم العمر بتعرجاتها، يجعل المرءَ أقل أهتماماً بما يدور حوله مقارنة بما كان عليه سابقاَ. في مراحل الطفولة والصبا والمراهقة من عمري، كنتُ، من دون تعمد، على علم بتفاصيل ما كان يدور في أنحاء بيتنا، وما يدخله من حاجيات وبضائع ومؤن، ومن يأتيه من زوار أو ضيوف، وما كان يدور في جنباته من أحاديث وحوادث. العلمُ بتلك الأمور لم يكن شيئاً تميّزت به عن أقراني. ولم يكن يتطلب موهبة. وما كان يفوتني من مشاهد وأمور وأحاديث، تأتيني أخبارها وأوصافها لاحقاً، من دون مشقة، وأسجلها في ذاكرتي الصغيرة. وهذا لا يعني أن فضولي، آنذاك، كان كسولاً. من طبيعة الفضول، في مختلف مراحل العمر، البحث عن التشويق. لذلك السبب، لم يكن فضول طفولتي على استعداد للتيقظ والتحفز للحركة والعمل إذا تعلق الأمر بشأن لا يحمل تلك الصفة. عامل التشويق لا يتوفر إلاّ في الغريب من الأمور، الواقعة خارج دائرة التوقع، وما تمليه الإعتيادية من ملل وضجر. ولم يكن هناك فرصة، أو مكان للغريب من الأمور والشؤون في بيتنا وقتذاك إلا نادراً. وعلى سبيل المثال لا الحصر، حرصُ أمي على اقتناء أنواع عديدة من الغرابيل. إذ ما الجدوى من اقتناء عدة أنواع منهم، في حين أن أثنين، على الأكثر، كافيان لاداء المتوجب من المهام المنزلية؟ كان حرص أمي على اقتناء غرابيل عدة وبأحجام مختلفة، من الأمور القليلة التي تثير فضولي في البيت. تعرفهم واحداً واحداً، وتطلق عليهم أسماء مختلفة، وتعلقهم على مسامير مثبتة في جدران المطبخ. كنا نشتريهم من صانعيهم في ” قلالية مريوطي” بباب الحرية، ويأتي بهم أبي إلى البيت بناء على توصية من أمي، وحسب الوصفة. وبالطبع، تختلف تلك الغرابيل في أحجامها. فتحات غربال الدقيق مثلا صغيرة جداً، في حين أن فتحات غربال الشعير كبيرة. وهناك غرابيل لأغراض مختلفة أخرى. وكانت أمي تحب غرابيلها وتعتني بهم عناية خاصة. لا أعرف على وجه الدقة ما الذي حدث لتلك الغرابيل، وأين أنتهت؟ وكل ما أعلمه أن جدران المطبخ حالياً، في بيت العيلة بطرابلس، لم تعد بها مسامير، ولم يعد تُرى بها غرابيل. وبالتأكيد، فإن تغيرات الحياة، وما لحق بنا من تطورات سببتها الطفرة النفطية، جعلت الغرابيل لا تختفي من بيتنا فقط، بل من عموم البيوت، ومن قلالية مريوطي، بعد أن أختفى صانعوهم، وبعد أن تكفلت المصانع الأوروبية والأسيوية بتوفير ما نحتاجه من مؤن جاهزة للطبخ، من دون اجهاد أو تعب.
أختفاء الغرابيل من بيوتنا ومن أسواقنا يعني انتفاء الحاجة إليهم في أعمال الطبخ. لكن لا يعني انتفاء الحاجة اليهم كلياً. واختفاؤهم من حياتنا لا يعني أن حياتنا أضحت خالية من الشوائب. والسبب أن تلك الشوائب التي خلت منها مؤن الطعام، بسبب التطور الصناعي، وجدت طريقها إلى أمور حياتية أخرى، ومن ضمنها وأخطرها تسرّبها، بمرور الوقت، إلى ثقافة واقعنا المعيشي الحياتي. وأدّى ذلك التغيّر إلى احداث تغيير في عقولنا وأفكارنا وسلوكنا اليومي. بعض تلك التغييرات اتسم بايجابية، وبعضها سلبي ألحق أضرارا بنا. ما نراه في واقعنا اليومي من ممارسات وتناقضات، وغياب للوعي والادراك، وافتقاد حسّ المواطنة، وعدم أحترام القانون والاعتداء على الملكية العامة…الخ تفرض علينا مواجهتها. المواجهة ليس بالسلاح والرصاص، بل باحداث ثورة في العقول، عبر غربلة محتوياتها بغرابيل التعليم والثقافة. أي تنقيتها من الشوائب، لتصبح قادرة على السؤال، وعلى وعي بتفاصيل واقعها وعوائق ومطبات حياتها.