عمارة الدنيا
د. علي محمد رحومة
استرعت انتباهي عبارة بالغة الأهمية لأحد رموز اللغة والتجديد في تاريخنا العربي الحديث، الأستاذ أمين الخولي (1895-1966).. وردت في كتابه المهم (مشكلات حياتنا اللغوية)، يضع فيها يده على جرحنا النهضوي النازف، ويعلل تخلفنا بما ورثناه من تصورات خاطئة للدنيا…
يقول في معرض حديثه عن (علم الوضع) المختص بأحوال اللفظ العربي وتكوّن اللغة العربية، مشيرا إلى غرابة تصور طريقه لدى قدمائنا، بأنه “وضعُ واضعٍ جعل الآخِرَ أوّلًا، وتبينت حكمتَه حاجةُ الأجيال والآباد.. فدبّرَ لها، ونظّم الاختلافَ فيها”!..
يقول: “لكن، ما يبدو لنا غريبا هكذا، لم يكن إلا منطق القوم في هذه الغرابة. فإنك لتعرف أنهم يرون الدنيا نصف، قد ذهب خير نصفيها. ويقرّرون أن الأول قد ذهب بالمعرفة كلها، كما ذهب بالخير كله.. وأن أفضل القرون قد مضى منذ أكثر من عشرة قرون.. فالنظام عندهم ليس نشوءًا وترقيا.. بل هو تنزل وتدهور، بعد كمال وفضل.. ومن هنا تدرك أن أساس الخلاف فكري جوهري عام.. يمتد إلى أشياء كثيرة، ولا يقتصر على اللغة، بل يمس النظرة الكبرى في سير الوجود كله، لا سير اللغة فقط”. (ط2، 1965، ص40-41).
لا شك أن هذا التصور والاعتقاد، لم يزل لدى نسبة كبيرة منا حتى أيامنا هذه في القرن 15 الهجري، (21م). بسبب فهمنا المعيب لما جاء في بعض النصوص الدينية بشأن تفسخ الدنيا، وأن ما مضى منها خير مما سيأتي، والسابق في زمنها أفضل من اللاحق، فهي دار الفناء، ومتاع الغرور، ولا تساوي عند الله جناح بعوضة.. وكذلك المسلمون، الأولون خير من التالين؛ ما نتج عنه التراخي في الاهتمام بعمارة الدنيا، وتطوير وسائل الحياة الراقية بها…
بغضّ النظر عن الأصول النصية الدينية التي فُهمت بتشوّه، سواء في القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو الحديث النبوي، مثل قوله عليه السلام: “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادةُ أحدهم يمينَه، وتسبق يمينُه شهادتَه”. (رواه البخاري ومسلم).
لا يخفى أننا نتجاهل ونتناسى أن الإسلام يحثنا على الالتزام بالحق والخير في كل أحوالنا الدنيوية، ولا يكون ذلك إلا بالعمل والإخلاص فيه، ما ينتج عنه بالضرورة عمارة الدنيا وترقّيها، لا خرابها ولا تدنّيها.. وتُبنى الحياة في صورة أجمل، وأبهى، تليق بالإنسان الذي كرمه ربه بالعقل.
وما هي وظيفة العقل؟!
أليست التفكير، والتدبير.. ومن ثم العمل بالعلم والحكمة، وجني ثمار ذلك في شكل التقدم المطلوب. وإن المسلم مكلف أكثر من غيره بالحفاظ على سنن الله الخيّرة، حتى اعتبر أقل الإيمان إماطة الأذى عن الطريق، وأن سعيه في الدنيا يجب أن يلتزم فيه بالقيم الإنسانية، التي تجعل عالَمنا عالما أفضل، يتكامل شيئا فشيئا.. وكلما يتوالى الزمان على الزمان يُفترض أن نزداد علوًّا وفضلًا، ونتدرج في مدارج الرقيّ، بفهمنا الصحيح لقوانين التطور.
إن الله عز وجل كلّف المسلمين بتحمل مسؤولياتهم في شؤونهم كافة، في علاقتهم بربهم، وعلاقاتهم ببعضهم البعض، وعلاقتهم ببقية الناس في كل زمان ومكان. وأن يزداد خيرنا وصلاحنا دوما، ويجب أن نتأمل دائما بأن القادم أفضل، ونعمل لأجله.. ولا نتوقف عن هذا أبدا، إلى آخر لحظة من الدنيا. لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: “إنْ قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها”.
بمعنى يجب أن لا يمنعنا قرب قيام الساعة من العمل، والسعي في صلاح الدنيا وعمارتها، فهي ليست دار الفناء، بقدر ما هي بوابة البقاء، والضياء.