محمد الهادي الجزيري
لا تتغيّر الأسماء وعناوين الإصدارات وزوايا النميمة والتشكيك والعرقلة ولا يختلف الأمر في شيء تقريبا، فيبقى الواقع متشابه إلى حدّ التطابق في ظواهر عديدة، من ضمنها القطيعة المتفاقمة سنة إثر أخرى بين الشعر وجمهوره، وتحوّل الأمسيات الشعرية إلى حلقات ضيّقة يحضرها الشعراء المشاركون في الأمسية ومدير الفضاء الحاضن لها وحارس الفضاء إن لم تكن التلفزة تبثّ مقابلة كرة قدم يومها، إضافة إلى اثنين أو ثلاثة ندامى لأحد المشاركين في حفل تأبين القصيدة…
هذا الوضع الحزين ينطبق على جلّ الأمسيات التي يتمّ تنظيمها في مدننا الكبرى، فما يزال للشعر في القرى والأرياف بعض مناصرين وحلفاء، أمّا سكّان المدن فقد انفضّوا عنه وعن أبيه وسلالته، تاركين الشعراء للتململ والتذمّر والبكاء على فنّ القول العظيم، دون أن يتساءلوا يوما واحدا عن سبب هذا الهجر الجماعي، ودون أن يفكّروا في البحث عن وسائل وقنوات جديدة لربط الصلة بالمتلقّي…
تعبت شخصيّا من الوقوف على المنبر وترديد التحيّة المهترئة…
سعيد بوجودي بينكم، وإنّه لشرف لي أن أقرأ ما تيسّر من الشعر في هذا الجمع الكريم… ثمّ أرجم الشعراء المشاركين المكوّنين لجمهور الأمسية بقصائدي التي حفظوها عن ظهر قلب، من فرط سماعهم لها..، إثر ذلك أعود إلى مكاني لأقوم
بدور المتلقّي في غياب الغاوين وعشاق الشعر، ويتداول على المنبر زملائي في الشعر والحزن والقرف ونمرّ فرادى وزرافات إلى مكتب المدير لنتناول ” الكاشي ” من يده الكريمة…هذا وضع بائس لابدّ من تجاوزه بشتّى الأفكار والحلول الممكنة، شخصيّا فكّرت في خلاصي من الورطة المخزية، وذلك بأن وجدت لقصائدي فضاء آخر وجسرا مبتكرا للتواصل مع الجمهور واستدراج القرّاء، وقد نجحت في مسعاي يوم أدركت أنّ المشكلة لا تكمن في الشعر بل في طريقة تقديمه لسكان القرن الواحد والعشرين، مدمني الصورة والمولعين بالمشهدية ، في زمن هو عصر الفرجة بامتياز….
بدأت في تنفيذ الفكرة منذ عقدين من الزمن،
أغويت بعض الموسيقيين والمسرحيين الشبّان وصعدت معهم إلى ركح إحدى دور الثقافة وانطلقنا في حياكة عمل فرجويّ، خيوطه الشعر والمسرح والموسيقى وباقة من الأغاني ذات المنحى الطربي، إضافة إلى الفنّ التشكيلي بفضل انضمام الصديقة راضية الدويري إلى الحلم، وهي مختصّة في الابتكار الفنّي المستوحى من التراث ، وقد كان لي ما أردت فور خروج العمل الأوّل للناس، لم أعد أقرأ شعري أمام ” نخبة ” حزينة من المبدعين الحزانى، بل جبت البلاد من شمالها إلى جنوبها رفقة حلفائي المجانين وأعدنا إلى الشعر بريقه وحضوره القويّ وذلك بإعادته إلى مهده الأوّل، ألا وهو المسرح، وبتلاقحه مع فنون أخرى كالموسيقى والفنّ التشكيلي، وقد لاقى العرض نجاحا محفّزا لمواصلة التجربة
خلاصة ما أردت تبليغه إلى أصدقائي الشعراء في الوطن العربي ككلّ ،هو ضرورة التصالح مع عصرنا الحاضر، فمن غير المعقول أن نصرّ على تقديم الشعر ، بالشكل
التقليدي الذي عفا عنه الزمن، ومن الظلم أن نطلب من إنسان اليوم حضور أمسيات شعرية لا تجديد في شكلها ولا مضمونها،وتطغى عليها الرتابة وتكرّر المشهد الواحد
شاعر يقرأ جالسا أو مستندا إلى منبر ونحن نعلم أنّ الكائن الإنساني تحوّل إلى عين كبيرة تشاهد كلّ دقيقة مئات المشاهد والصور، ولا سبيل لإغواء الجمهور إذا واصلنا عنادنا اللا مبرّر له ، وإصرارنا على ” السلام عليكم، أنا سعيد بحضور هذا العرس …” وما هو سوى مأتم رتيب وبائس وخارج السياق الحضاري ..، أرى أنّ علينا اليوم البحث للقصيدة العربية عن فضاءات أرحب من الورقة ومن منابر ” الأعراس الشعرية “… ابتسموا إنّ القصيدة معنا وهي قادرة على التأقلم مع عصر المشهديّة والصورة … فهو عصر الإنسان ..والشعر هو الإنسان…