منصة الصباح
طارق القزيري

كتاب بلا ليبيا: كيف تهرب ساركوزي من ميراث قراراته

طارق القزيري

في مشهد لا يخلو من سخرية التاريخ الثقيلة، جلس نيكولا ساركوزي في زنزانة باريسية يخط “يومياته”، بينما تتعثر ليبيا في مسارها الشاق نحو الدولة.

عشرون يوما قضاها الرئيس الفرنسي الأسبق خلف القضبان، فاستحالت في مخيلته ملحمة وجودية، بينما يتعلم الليبيون – بعد عقود من الاستبداد – أن الحرية ليست هبة تمنح، بل طريق يشق بالدم والصبر والإرادة الذاتية.

حين صدر “يوميات سجين” في العاشر من ديسمبر، تهافت الفرنسيون على اقتنائه حتى نفدت مئة ألف نسخة تقريبا في أول أسبوع، وفقا لدار فايارد الناشر.

وتصدر الكتاب قوائم المبيعات متجاوزا “أستريكس”، البطل الفرنسي الكارتوني الأسطوري المحبوب. لكن ساركوزي لم يكن يوما بطلا محبوبا يقاوم من أجل الآخرين؛ كان رجل دولة يحسب مصالح بلاده فرنسا، ومستقبله السياسي. فالدول – كما يعلم كل عاقل – ليست جمعية خيرية ولا ناشطا دوليا يبشر بالحرية.

من طرابلس إلى سانتي: الثورة والمصلحة

ثمة خيط معقد يصل بين قصر الإليزيه وسجن سانتي، يمر عبر ميادين بنغازي ومصراتة. ففي عام 2007، استقبل ساركوزي معمر القذافي استقبال الملوك، وتدفقت العقود والصفقات، وسال المال الليبي نحو شركات فرنسية كبرى في الطيران والبنية والخدمات، ولم تكن ملفات الطاقة بعيدة عن حسابات باريس.

ثم جاء ربيع 2011، فانتفض الليبيون بإرادتهم ضد عقود من القهر، ووجد ساركوزي في ثورتهم فرصة ذهبية: حماية المدنيين ظاهرا، وتصفية شاهد خطير باطنا.

هنا يكمن الدرس الأول: حين تتقاطع ثورات الشعوب مع مصالح القوى الكبرى، فإن هذه القوى لا تدعم الحرية لذاتها، بل تركب موجتها لحساباتها. فرنسا لم تتدخل في ليبيا لأن ساركوزي آمن فجأة بحقوق الإنسان، بل لأن القذافي الحي ربما كان يحمل أسرارا مهلكة، والقذافي الميت، او المعتقل أو الطريد المخلوع، لن تصبح أسراره ذات قيمة، أو هكذا ظن. وساعده في ذلك سرعة انهيار نظامي تونس ومصر، فيما يشبه لعبو دومينو مغرية للعب.

مؤكد أن الفوضى بعد 2011 لم تكن “مؤامرة” وحدها ولا “خيانة” بذاتها؛ بل تداخلت حسابات الخارج مع عجز الداخل عن تحويل السقوط الى دولة، وانفلت السلاح قبل ان تولد مؤسسات تضبطه. والخلاصة: الحرية لا تثبت يوم يفتح الباب، بل يوم يصبح القانون اعلى من المزاج، والمؤسسة اعلى من الفرد، والمساءلة اعلى من السلاح.

20 يوما و درس لم يكتمل

بحسب المقتطفات السارية يكتب ساركوزي عن “غياب الألوان” في زنزانته، عن اللون “الرمادي الذي يلتهم كل شيء”. إذ يتحدث عن الصمت والوحدة والتأمل الروحي. يشبه نفسه بـ “دريفوس”* المظلوم. لكنه لا يسأل نفسه السؤال الأهم: ماذا تركت ورائي؟

ليس الليبيون ضحايا ثورتهم، بل ضحايا وهم قديم: أن الحرية يمكن أن تستورد على ظهور الطائرات المقاتلة، أو أن تبنى الديمقراطية بقرار من مجلس الأمن. الثورة الليبية كانت صرخة شعب حقيقية ضد طاغية حقيقي، لكن من ركبوا موجتها من الخارج لم يكترثوا بما بعدها. أسقطوا النظام ورحلوا، تاركين شعبا يتعلم – وحيدا وبثمن باهظ – أن بناء الدولة أصعب ألف مرة من هدم الديكتاتور.

الحرية: أخلاقيات ذاتية أو لا تكون

هنا الدرس الليبي الأعمق، الذي يتجاوز ساركوزي وكتابه ومحاكماته: الديمقراطية ليست وصفة تستورد، والحرية ليست سلعة تشحن. إنها أخلاقيات ذاتية، تنبت من تربة المجتمع، وتسقى بتضحيات أبنائه، وتنضج ببطء المؤسسات لا بسرعة الصواريخ.

حين اندلعت ثورات الستينيات في أوروبا، لم يأت أحد لينقذ الشباب الفرنسي أو الألماني. بنوا حريتهم بأيديهم، وتعلموا من إخفاقاتهم، وصاغوا عقدهم الاجتماعي جيلا بعد جيل. هذا ما يحتاجه الليبيون: لا منقذين من الخارج يأتون بأجنداتهم، بل إيمانا داخليا بأن الطريق طويل، وأن الحرية الحقيقية هي التي تصنع لا التي تمنح.

المفارقة الكبرى: المدان يقود النقاش

الأكثر إثارة للدهشة أن ساركوزي لا يكتفي بالدفاع عن نفسه، بل يتقدم لقيادة اليمين الفرنسي من سجنه. يرفض “الجبهة الجمهورية”، ويدعو للتحالف مع أقصى اليمين، ويهاجم ماكرون. باختصار: يمارس السياسة كأن شيئا لم يكن، كأن ليبيا لم تكن، كأن القذافي لم يقتل، كأن المحكمة لم تدنه.

وهنا المفارقة: الرجل الذي ركب ثورة الليبيين لمصالحه، يعود اليوم ليعيد تشكيل ديمقراطية بلاده. لكن الفرق أن الفرنسيين يملكون مؤسسات تحاسبه، بينما ترك الليبيين دون مؤسسات تحمي ثورتهم.

تجاهل السيد ساركوزي ليبيا التي غيرّها بقراراته – مهما كانت دوافعه – وتناسى بنغازي ومصراته والزنتان، ليعلم الليبيون أنهم – وإن لم يخطئوا حين ثاروا أنهم يمارسون حقا أصيلا، فمت يجب استدراكها أن يتعلموا الدرس الأصعب: الحرية التي يصنعها الآخرون لا تدوم، والديمقراطية التي تبنى على أكتاف الغرباء تتهاوى حين يرحلون.

ساركوزي اليوم في السجن وبعده، يكتب يومياته ويتصدر المبيعات. لكن اليوميات الحقيقية هي تلك التي يكتبها الليبيون كل يوم، وهم يتعلمون – بثمن فادح – أن الحرية أخلاق قبل أن تكون سياسة، وإرادة ذاتية قبل أن تكون قرارا دوليا.

الشعوب التي تصنع حريتها بيدها هي وحدها التي تستحقها… وتحافظ عليها.

——————————

* ألفريد دريفوس: ضابط مدفعية فرنسي، يهودي الأصل، حوكم وأدين سنة 1894 بتهمة الخيانة و التجسس، ونال العفو بعد جدل استمر 12 عاماً.

شاهد أيضاً

النفط يواصل الصعود وبرنت يتجاوز 62 دولارا للبرميل

الصباح/ وكالات واصلت أسعار النفط ارتفاعها، اليوم الأربعاء، بعد مكاسبها في الجلسات السابقة، مدعومة بالنمو …