منصة الصباح

سِبَاقُ الإِعْجَابِ… وَضَيَاعُ الثَّوَابِ

يبدو أن الوعيد الإلهي للمرائين لم يعد وحده رادعاً في هذا العصر، أمام سيل الوجوه التي تنشر عبادتها على مواقع التواصل الاجتماعي بكل جرأة وصحة وجه، حتى غدت العبادة تؤدى بطريقة اللايف وجمع الإعجابات.

وكأن قوله تعالى ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾، نزل يصف هذا المشهد، لكن الفرق أن رياء اليوم ينشر ويبث مباشرة بابتسامة عريضة.

لم يعد العمل الصالح خفياً كما كان، بل صار علنياً بجرأة (وصحة وجه)، الكثير من الصفحات عندما تتصفحها ستجد سباقاً لعرض الصدقات، مع ذكر الأسماء والألقاب وحتى المدن، وصور المصاحف أو فيديوهات الآبار… بل حتى البرامج التلفزيونية مثل (لمسات الخير) لم تسلم، حيث تذكر أسماء المتبرعين مع كل بئر أو صدقة، وكأن العمل لا يتم ولا يقبل إلا بذكر المتصدق.

بعضهم يرسل نسخاً من المصحف الشريف ليذكر اسمه علناً، في مشهد أشبه بإعلان تجاري، يسوق للصدقة كما تسوق السلع الاستهلاكية، وكأن العمل الصالح لا يكتمل إلا بالدعاية والتصفيق العلنى.

أما حديث النبي عليه أفضل الصلاة والسلام: (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فأَخْفَاها، حتّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ ما تُنْفِقُ يَمينُهُ)، فقد صار نادر الذكر في زمن الإعجابات والمتابعات.

وتزداد المأساة في موسم الحج والعمرة، إذ تحول الركن الخامس عند البعض إلى مناسبة للاستعراض، تنشر وتبيث فيها كل تفاصيل الرحلة، حتى أصبح بعضهم يعتمر مرات عديدة كل عام، ويعود ومعه فقط ألبوم صور وآلاف الإعجابات، ولا ينسى طبعاً أن يكتب في جدار صفحته على الفيسبوك عبارة: دعيتلكم عند الكعبة.

تحول الرياء إلى آفة شائعة، فلم تعد الطاعات سراً بين العبد وربه، بل أضحت عروضاً علنية على مواقع التواصل الاجتماعي، يتسابق فيها على عدد المشاهدات والإعجابات، دون النظر إلى حسن الثواب وسلامة الحسنات.

المشكلة لا تكمن في المرائين وحدهم، بل في مجتمع يصفق لهذه الأفعال، ويزدري المتخفي بإيمانه، ويكفي قول الإمام الشافعي: (وَدِدْتُ أنَّ النّاسَ تَعَلَّموا هذا العِلْمَ وَلَم يُنْسَبْ إِلَيَّ مِنهُ شَيءٌ)، فكيف بحال من يتمنى أن ينسب إليه نسخة مصحف أو حفر بئر أو كيس تمر، ولو بصورة مع طفل جائع؟

هؤلاء المرائين يجب أن يتم إعادة تعريف العبادة لديهم، يجب أن يقال لهم أن العبادة تبدأ بإغلاق الكاميرا وفتح القلب، وذلك عبر توعية دينية تعيد للإخلاص مكانته، وتعلم أن الصدقة عبادة لا عرض مرئي، وأن الحج زاد للآخرة لا محتوى للصفحات.

وعلى الدعاة والوعاظ ومؤسسات المجتمع ووسائل الإعلام، أن يحفزوا على الصدقات الخفية، ويبرزوا فضائل الإخلاص، فالعبادات الخالصة وحدها تبقى في السماء، ولو غابت عن كل الصفحات والشاشات.

د. علي عاشور

شاهد أيضاً

جمعة بوكليب

“خَلّيها تعجّجْ”

جمعة بوكليب علاقاتُ الصُحبة بين رجال كبار السنّ، في العادة، تكون متميزة لإنتفاء المصلحة. هي …