منصة الصباح

ساحات مستباحة

براح
بقلم /محمود البوسيفي

راجت في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي مقولة ان الاستعمار هو المسؤول عن مدى التخلف الذي يمتد على مساحة الوطن العربي في تلك الآونة، وكانت الملامح العامة تشي بصحة تلك المقولة وتؤكدها بأسانيد وشواهد يعاني من يرفضها كثيرا وهو يجادل بشأنها.
كانت خريطة التعليم كما وكيفا شديدة العوز، فيما كانت الخدمات الصحية شبه معدومة، وهما من أفضل ما تركه المستعمر وهو يرحل عن بلادنا العربية تباعا، منذ النصف الثاني من عقد الأربعينيات.
تزاحمت الأنظمة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار التي اتفقت ( رغم اختلافها) على اعتماد التقوقع الأقليمي واعلان الحرب على التخلف، ليس من وراء الجرارات، ولكن من وراء الميكروفونات.
بإستثناء ات نادرة لم تكن التنمية هاجس تلك الانظمة التي كانت تتناسل بطريقة عجيبة.. كان الجميع تقريبا غير مكترث بنوعية التعليم او زيادة الرقعة الزراعية، أو تقديم القاعدة الصناعية، أو الإعتماد على الرؤى العلمية في بناء المشروعات العامة، و صياغة مفاصل التنمية وفقا للأمكانات والقدرات.. كان الجميع تقريبا من حكام الأمة يعرفون ماذا يرفضون بنفس القدر الذي يجهلون به ماذا يرغبون.. وهي الحالة التي عصفت بمعظم التجارب في دول العالم الثالث، ودفعت بها إلى التحول إلى دكتاتوريات وانماط مماثلة من بعد نصف قرن من رحيل المستعمر وسيطرة أهل الوطن العربي على مقاليد دوله.. لم يعد من الممكن التوكؤ على مشجب الاستعمار.. صار الأمر مثيرا للتقزز.. رغم ما تقذفه الاذاعات العربية من تعليقات تغني لغير سامعين، لم يعد الاستعمار مسؤولا عن تردي أوضاع التعليم، والصحة، وباقي القطاعات، لم يعد الاستعمار مسؤولا بأي شكل عن انعدام العدالة او ارتفاع معدلات الجريمة ونزلاء السجون والمعتقلات ومحطات العاطلين عن العمل.
الاستعمار الذي كان يجثم على الوطن الكبير أدرك وهو يخرج من الباب انه بوسعه العودة من النوافذ دون أن يواصل تحمل أعباء البقاء بالشكل القديم، أدرك المستعمر وهو يرحل بعساكره انه بمقدوره العودة لممارسة نفس الدور.. ولكن هذه المرة عبر أصحاب الياقات البيضاء واربطة العنق من اهل البلاد، والحصول على نفس القدر من الكعكة.
لم تتحرر فلسطين، وإنما ابتلعت بكاملها، ولن نتحدث عن باقي المناطق، ولم تنجز التنمية، ولم يتحرر المواطن، ولم تتحقق العدالة، ولم يعد في ظل التطاحن الحديث عن مجتمع الوفرة والعدالة الاجتماعية.
في المقابل ارتفعت مؤشرات البطالة والجريمة والتسرب من التعليم وعمل الأطفال.. في تزامن مع تصاعد معدلات الفساد المالي والإداري والاخلاقي دون أن يكون للأستعمار اي دور مباشر.
من المسؤول عن تحويل الوطن العربي إلى مستودع للعجزة والعاطلين عن العمل، من المسؤول عن تخريب قطاعات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والقطاعات الإنتاجية.. من المسؤول عن تفشي المخدرات والأوبئة والرذيلة.. الاستعمار ليس مسؤولا عن ازدحام المحاكم بكل انواعها بجرائم القتل والسرقة والاحتيال والسطو والتزوير والتدليس الخ الخ.
من المسؤول عن التشويه الذي وصل إلى الهوية.. حيث باتت اللغة إشارات ورموز مختلطة برطانات أخرى.. والأكل نماذج من وجبات سريعة استوجبتها في بلادها شروط سوق العمل.. والازياء صارت ترسم وتصاغ وتفرض بذائقة لا علاقة لنا بها من قريب أو من بعيد.
من المسؤول عن تفاهة الإعلام العربي، وثرثرته الذيلية.. من المسؤول عن تحويل الوطن العربي إلى ساحات وميادين يجرب فيها الأمريكان والانجليز والفرنسيين والصهاينة وغيرهم اسلحتهم وغطرستهم وعربدتهم..
من المسؤول عن كل هذا الاحتقان المرير.. أو متى يتم الانفجار..

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …