منصة الصباح

رُبَّ ضارة نافعة

 جمعة بوكليب

 زايد ناقص

رحم الله الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة. كان هو أول من نَبّه إلى خطر الماعز في تونس على محصول شجر الزيتون، وحذّر مراراً من مغبة السكوت عليه، ودعا إلى التصدي له بكافة السُّبل.

لكن في عصر التكنولوجيا المتقدمة، والأقمار الاصطناعية، والحروب الالكترونية، وكوارث الطبيعة، والأوبئة، واستفحال الإرهاب، وضياع الأوطان، من منّا لديه وقت أو مزاج للحديث عن قطيع ماعز لم يعد بالمقدور السيطرة عليه، في جزيرة ايطالية نائية بعدد سكان لايتجاوز 100 نسمة، ولا تبدو بائنة على الخريطة من شدة الصِغر.

القصةُ وردت في تقرير نشرته صحيفة الغارديان البريطانية مؤخراً، وخصصت له مساحة في صفحاتها تكاد تختلف عن المساحات التي خصصتها لاخبار ما يجري في غزة وأوكرانيا من كوارث وقتل ودمار.

الحزيرة تقع على بعد ساعتين أو ثلاث ساعات من جزيرة صقلية. واسمها أليكودي-Alicudi، ومشكلتها أنها تريد التخلص من قطيع ماعز يبلغ عدد أفراده 600 بين معزة وتيس، تجوب أراضيها الصخرية وشوارعها، بل وحتى بيوتها، وتهدد موسمها السياحي.

عُمدة الجزيرة، أعياه التفكير، وأخيراً وصل إلى حلّ ظنّه كفيلاً بتخليص الجزيرة من شرور القطيع. نشر إعلاناً على الانترنت، شرح فيه المشكلة، وطلب من كل من لدية رغبة في تبنّي تيس أو معزة التقدم بطلب. خلال أقل من أسبوع وصل عد طلبات الراغبين 1900طلباً بالتبنّي. الطلبات جاءت حتى من خارج ايطاليا ومن بلدان في قارات عديدة. حلُّ التبني أحدث مشكلة أخرى. إذ كيف يمكن توزيع 600 تيس ومعزة على 1900 شخص؟

المشكلة الأخرى هي كيف يمكن اعتقال أفراد القطيع من الجبل، ومن سيدفع تكاليف النقل؟ آخذين في الاعتبار خطورة المهمة، لأن تيوس القطيع كثيرة، وضخمة الحجم، وبقرون، أكد العمدة إنها تصل إلى نصف متر طولاً.

قبل أن ينتقل سكان الجزيرة للعمل في السياحة منذ عشرين عاماً مضت، كانوا مزارعين فقراء. ولما بدأت أفواج السواح تصل الجزيرة، تركوا مزارعهم الجبلية الصغيرة، ونزلوا إلى الشاطيء لخدمة السواح وتفريغ جيوبهم. وهجروا المزارع وما بها من ماعز. تلك الحالة جعلت الماعز بلا راع، فتركوا المزارع وتكوّن منهم قطيع صغيرً،زاد عدده بمرور السنوات، وتولى أمر نفسه بنفسه.

وبعد فترة زمنية، بدأ يترك مراعيه المجدبة في الجبل، ويتحرك هبوطاً نحو الشاطيء بحثاً عن قوته، ويأتي على كل ما يصادفه في طريقه من أخضر ويابس، بل ويدخل البيوت ويعبث بمحتوياتها. وفي المساء يعود إلى مقراته في الجبل، مثلما يعود موظف عمومي إلى بيته بعد نهاية الدوام.

الآن، وفصل الصيف على الأبواب، وموسم قدوم السواح يقترب سريعاً، اضطر عمدة الجزيرة للبحث عن حل للمشكلة. وواضح من القصة أن كل التدابير والحيل فشلت في الوصول إلى حل نهائي، يخلص الجزيرة وسكانها من مشاكل قطيع الماعز وخطورة تيوسه الأشاوس.

عمدة الجزيرة خلال بحثه عن حلّ، أعماه التفكير والاحباط عن رؤية حقيقة كانت تبرز وتكبر أمام عينيه كل يوم. وهي، أن قطيع الماعز المنفلت، انتشل تلك الجزيرة النائية والصغيرة جداً من قعر بئر النسيان، ووضعها على الخريطة.

وأنه جعل صحيفة بريطانية، بمستوى عالمي، اسمها الغارديان، تفرد للقصة مساحة في صفحات عددها الأسبوعي، ويقرأها قرّاء في جميع أنحاء العالم. وأن كل الفضل في تلك الشهرة العالمية، يعود إلى تلك التيوس المتمردة، التي زرعت الخوف والرعب في قلوب سكان الجزيرة.

وأولى بالعمدة وبالسكان في أليكودي، تذكر مثل قديم مازال ساري المفعول يقول:” رُبَّ ضارةٍ نافعة.”

شاهد أيضاً

أمازونات الزراعة: ليبيات يعدن إلى الأرض

تقرير / ريما الفلاني – الصباح لم يخطر على بالي وانا اتجول في أروقة  “  …