منصة الصباح

رحيل

محمود السوكني

 

لا يكاد يمر أسبوع ، وقد يكون يوماً أحياناً ، إلا ونفقد فيه حبيباً أو صديقاً قريباً ، أو وجها مألوفا لدينا .

بدأت وتيرة الموت أسرع من توقعاتنا ، وكأنها تتربص بنا لأسباب نجهلها ، أو نتجاهلها ، لا فرق ! .

كل فقدان يقتطع جزءاً من ذاكرتنا ، ويمحو فترة من تاريخ العمر ، فمن ذهب مودعاً ، مرفوقاً بالأماني الطيبة ، والدعوات المكلومة ، يتكفل الزمان بطي صفحته ، وتأتي ميزة النسيان على مواقفه و أحداث حياته ، الطيب منها والخبيث ، وينشغل البال بما هو ماثل للأعين ، يعيش بيننا حتى يأتي عليه الدور ، ولا ندري من يكون الأسبق ، والأقرب إلى ذلك ! .

تلك هي نواميس الحياة ، وهذه قواعدها منذ بدء الخليقة إلى يوم البعث العظيم . والعاقل من يتعظ ، و يدرك أن الحياة معبر للخلود ، قد يقصر وقد يطول ، ولكنه حتماً إلى نهاية تفضي إلى الحياة الأبدية التي لا نهاية لها .

جاء فلان ، وذهب علان ، والنتيجة واحدة وحتمية ولا مناص منها ، فترة عمرية نخوضها كيفما اتفق ، لنقف بعدها في مواجهة لجرد الحساب في حضرة الإله العظيم الذي نطمع في أن يكون رحيما بنا ، غافرا لسيئاتنا رؤوفاً بأحوالنا ، غنياً عن عقابنا ، سبحانه قد وسعت رحمته كل شيء .

الموت يتربص بنا في كل خطوة ، ونحن نلهو عنه بمغانم الحياة ولذاتها ، لا نأبه للقادم من الأيام وكأننا نملك مفاتيحها ، ونعلم خباياها ، ونحن أجهل ما نكون بمواعيدها وأبعد ما نكون عن معرفة أسرارها .

جري الوحوش .. نحو غايات لا تدرك ، وأماني لا تتحقق ، والمحصلة إنهاك الجسد في ما لا طائل من ورائه ، وإضاعة العمر في ملاحقة سراب لا ماء فيه ولا حياة، ولا أمل يرجى .

الحياة ، هذا الامتحان الرباني ، إمّا أن تفوز فيه وتحظى بالعناية ، و إمّا أن تخسر وتواجه مصيرك الذي اخترت بأفعالك ، وذهبت إليه بمحض إرادتك !

معادلة سهلة ، لكنها صعبة على من اتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

أتساءل في داخلي … لماذا لا نقف ، لنحاسب أنفسنا مادام في العمر بقيه ؟

سؤال أتوجه به إلى ذاتي قبل الآخرين ، تعنفني نفسي الأمارة بالسوء ، وتصرخ متيقنة (لازال الوقت مبكرا، فلم العجلة؟؟) استرخي على وقع هذه الكلمات ، وأبدو شبه مطمئن لدبيب حروفها ، ولا يوقظني من الاستغراق في نشوتها ، سوى صوت الناعي ، يهز أركاني بخبر رحيل عزيز ، لم أفكر يوما في أنه سيموت !! .

يا الله كم هي تافهة هذه الدنيا ، وكم هو وضيع هذا العمر ، وكم هو الموت قاس في حضوره ، وطاغ في تمثله ، وصادق في مواعيده .

هذا هو الفعل الحقيقي الأوحد الذي نتفق عليه جميعا ، فكيف لا نستعد لاستقباله ؟! .

قد لا يجد هذا الحديث لدى البعض صداه ، ويصفه بالقول المتشائم الذي يصدر عن نفس كئيبة ، تستغرقها العتمة، ويغيب عنها الضياء ، تنحو إلى المآسي ، وتغفل عن المباهج ، تهفو إلى المصائب ، وتضيق بالأفراح والمغانم ! .

و .. ليكن الأمر كذلك ، فمن يجادلنا في حقيقة الموت ؟ من ذا الذي يضمن لنا الخلود ، أو حتى يحدد مواعيدنا ؟! .

من منكم يعلم خاتمته ، وأين تكون ، وكيف تكون ؟

ثم من منكم استعد ليوم اللقاء العظيم ؟ وما هي وصفة النجاح التي يتسلح بها في ذلك اليوم المشهود ؟! .

لقد حدّد رب العزة شرط وجودنا ، إذ قال في محكم كتابه العزيز “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” فهل انصرفنا عن حوائج الدنيا ، وانشغلنا بعبادته ؟ أم أننا تُهنا في مجاهلها ، وأضعنا العمر في مشاغلها ، وأنسانا لهاثنا المحموم عن الالتزام بهذا الشرط ، والانصياع لهذا القول الإلهي العظيم ؟! .

كل يوم نفقد عزيزاً ، ولا نتعظ …

كل رحيل يوقظ فينا الشعور بالخوف ، ثم نغفل وننسي أو نتناسی …

كل نعش نراقبه بتوجس و حذر و ترقب و قلق لما هو آت ، و نجاهد في إسقاطه من الذاكرة .. ضعيفة هذه النفس ، وعصية على الإدراك ، لا تكل ولا تمل و هي تسعى بصاحبها إلى حتفه ، مادام لا يحكم لجمها ، ولا يحسن قيادتها ، ولا يقدر على ترويضها ، و ينصاع طواعية إلى أوامرها .

لا حدود لنزواتها ، ولا مانع لأهوائها ، ولا سبيل لكبح جماحها ، إلا بإعمال العقل ، و التفكر في حقيقه الوجود وأسبابه ، و تذكر الأعزاء الذين نفتقدهم تباعاً ، أين ذهبوا ؟ وما الذي تركوه وراءهم ؟ وما الذي ينتظرهم ؟! .

شاهد أيضاً

بلدية زوارة تناقش حماية التراث وتسهيل الحركة وسط تحديات المهاجرين

بلدية زوارة تناقش حماية التراث وتسهيل الحركة وسط تحديات المهاجرين

احتضنت بلدية زوارة أمس اجتماعا موسعا ضم ممثلين عن الأجهزة الأمنية لمناقشة تحديات المهاجرين غير …