بقلم / مالك التريكي
يعيش العالم منذ سنين فترة تخبط واضطراب واحتيار. فقد أصبح مستقبل الإنسانية مهددا بالدمار، الحقيقي لا المجازي، بفعل تضافر عوامل من نوعين. الأول هو تفاقم التوتر السياسي والتنافس الاستراتيجي والاقتصادي بين القوى الكبرى، وتزايد النزاعات وسباق التسلح بين كثير من الدول، وتعاظم الكراهية بين مختلف الإثنيات والثقافات على خلفية تعاظم موجات اللجوء الإنساني من مناطق الحروب واللجوء الاقتصادي من مناطق الفقر. أما الثاني فهو تفاقم تدهور البيئة بفعل التلوث الصناعي والاحتباس الحراري تدهورا مستمرا لن يتوقف، ولن يفيد معه تكاذب الحكومات بشأن الالتزام بخفض نسب منفوثات ثاني أوكسيد الكربون، فقد استفحل الداء ولن تغني المهدئات شيئا حتى لو صدقت الحكومات. وما هي بصادقة.
لم يحدث للبشرية أن واجهت مصيرا بيئيا مثل الذي تواجهه اليوم، حيث أن فترة تعميم نمط الحياة الاستهلاكي التي لا تزال مستمرة منذ بدء الثورة الصناعية هي فترة لا مثيل لها. ولهذا لا يوجد في التاريخ سابقة يمكن أن تساعد في فهم الكارثة البيئية المحققة. أما المصير السياسي والاقتصادي المظلم الذي تواجهه الإنسانية فإن من الممكن فهمه تاريخيا لأن هنالك في الماضي القريب ملتمسا لمقارنات وإضاءات. ولهذا فقد شاع القول، على سبيل التشبيه، بأن الفترة الحالية إنما هي مثقلة بالمعضلات ذاتها وحبلى بالنذر ذاتها التي شهدتها فترة ما بين الحربين العالميتين.
ووجه الشبه أن الأزمة الاقتصادية وانتشار البطالة وانسداد الآفاق عوامل أدت إلى تفشي النزعة القومية وشعور المظلومية وكراهية الأجانب وبروز ساسة شعبويين يكتسبون ولاء الجماهير بمنطق تبسيطي يجمع بين تجسيد جميع المشكلات في عدو مزعوم يحمّل مسؤولية كل الآثام والآلام وبين التلويح بحلول راديكالية تبدو في الظاهر سهلة التصور سريعة التنفيذ. إلا أن المؤرخ مارك كنوبل قد بيّن عدم دقة هذا التشبيه الذي قال به كثير من المثقفين والساسة الغربيين، بمن فيهم الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون.
أما أحدث الأقوال في هذا الشأن، ولعله أطرفها، فهو ما كتبه المعلق البريطاني توم وولف انطلاقا من قراءته لكتاب «صعود القوى العظمى وانحدارها» للمؤرخ بول كندي وكتاب «الاتجاه المحتوم نحو الحرب» للباحث السياسي غريهام آليسون. يرى توم وولف أن الفترة الحالية تتضمن مزيجا من عناصر لها ما يوازيها في فترات تاريخية ثلاث: الحرب الباردة، فترة ما بين الحربين، والفترة الممتدة من توحيد ألمانيا عام 1871 إلى اندلاع الحرب الأولى عام 1914.
إذ إن الصراع الايديولوجي والسياسي الحالي بين القوتين العظميين، أمريكا والصين، يشبه الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة.
وليس هذا صراعا بين الغرب الديمقراطي الليبرالي وبين خصمه الاستبدادي على الهيمنة العالمية فقط، وإنما هو أيضا صراع إيديولوجي حول معنى الحداثة. كما أن الفترة الحالية تشبه فترة ما بين الحربين من حيث أنها قد أعقبت أزمة مالية خلّفت أزمة ثقة في المؤسسات الديمقراطية وفي الاقتصاد الحر، ومن حيث أنها تتسم بصعود السياسات الشعبوية والنزعات القومية والأنظمة التسلطية.
أما وجه الشبه الأهم فهو مع فترة ما قبل 1914.
حيث أن صعود الصين الآن يوازي صعود ألمانيا وأمريكا آنذاك. فقد انخفضت حصة بريطانيا من الإنتاج الصناعي العالمي من 23 بالمائة عام 1880 إلى 14 بالمائة عام 1913، بينما ارتفعت حصة ألمانيا في الفترة ذاتها من 9 إلى 15 بالمائة وحصة أمريكا من 15 إلى 32 بالمائة. والنتيجة أن تدخّل أمريكا في النزاعات الكبرى (وعدم تدخلها في فترة ما بين الحربين) هو العامل الحاسم الذي حدد مصير القرن العشرين.
أما اليوم فإن وضع أمريكا شبيه بوضع بريطانيا قبل 1914، حيث أن القوة السائدة صارت تهددها قوة صاعدة تستطيع التفوق عليها اقتصاديا.
ما هو الدرس من هذه المتوازيات بين اليوم والأمس؟
أن الدكتاتوريات قادرة على الانتصار، وأن الديمقراطيات قابلة للانهزام والانهيار إذا هي أسلمت قيادها لنخب سياسية رديئة (بريطانيا) أو حكام يغلب عليهم الاضطراب الذهني (أمريكا)، أي إذا هي قبلت طوعا أن تصير عزلاء من سلاح الذكاء.