منصة الصباح
د.علي المبروك أبوقرين

المثلث القاتل للنظام الصحي

 د.علي المبروك أبوقرين

في ظل الواقع الليبي الراهن والظروف الاجتماعية والاقتصادية ، والنسيج المجتمعي الهش ، والانهيار في الخدمات الأساسية ، تبرز مفارقة حادة بين الوفرة المالية النسبية الناتجة عن عوائد النفط ، وبين التدهور الممنهج في النظام الصحي ، رغم إن الدولة تمول القطاع الصحي بالكامل من الخزينة العامة غير أن تحقيق العدالة الصحية ، والتغطية الصحية الشاملة ، والحق في الصحة والكرامة ، والحوكمة الرشيدة في قطاع الصحة أصبح أمرا مستحيلا ، في ظل استمرار ما يمكن تسميته بالمثلث القاتل ، أو المدمر للنظام الصحي ، وهو التعليم الطبي الخاص ، والخدمات الصحية الخاصة ، والتأمين الصحي التجاري ،

هذا المثلث الذي تغلغل في جسم النظام الصحي وانتشر كالسرطان ، دون دراسات وطنية معمقة ، أو مشاورات علمية مع المتخصصين والمؤهلين والخبراء الفعليين في النظم الصحية وهياكلها وتمويلها وادارتها ، وفُرِض على النظام الصحي الهش بضغوط من أصحاب النفوذ والمصالح ، بما يتعارض مع طبيعة الدولة كبلد كبير جغرافيا ، وقليل سكانيا ، وريعي الموارد يعتمد على النفط فقط كمصدر وحيد للتمويل ، مما تسببت هذه السياسات الارتجالية ، والتوجه نحو الخصخصة الصحية المفرطة ، والنماذج الربحية الهجينة في نتائج كارثية ، وتم فتح المجال للتعلم الطبي الخاص ، والخدمات الصحية الخاصة ، والتأمين الصحي بدون ضوابط ، وانتشر الفساد واهدرت الأموال ، وتغلغل رأس المال في القرار الصحي والطبي ، وتفكك التعليم الطبي الحكومي ومؤسساته ، وانهارت الخدمات الصحية بالقطاع العام ، وتم تفريغ كامل للمؤسسات الصحية الحكومية بما فيها الكوادر العاملة بها ، وانتشرت الأمراض ، وتفتت النظام الصحي لأجسام منفصلة تماهي عشوائي مع نماذج صحية قائمة على الربحية ، والتفاوت الطبقي ، والتأمين الصحي التجاري ، كما هو معمول به في أنظمة رأسمالية ليتها ناجحة في بلدانها ، وإن نجحت عندهم وهذا مستحيل ، فإنها بالتأكيد لا تصلح للمجتمع الليبي في ظل بنية تحتية ضعيفة ، وتفكك ممنهج للمؤسسات ، وتوسع في هشاشة الفئات الضعيفة ، وتراجع التعليم الطبي ، وغياب البحث العلمي ، لذلك لا يجب أن يكون المثلث القاتل للنظام الصحي ضمن السياسات العامة ، أو الاستراتيجيات الأساسية للدولة ، لأنه أدى لضرب العدالة الصحية ، وانهيار للضمان الاجتماعي ، وعزز الفوارق الطبقية ، وأفقر معظم الناس ، وخسر المرضى أموالهم ومدخراتهم ، واستنزف الموارد العامة لصالح منظومات البزنس والتجارة والاستثمار في المرض ، واستغل الحذاق حاجة الناس وانهيار النظام الصحي ، وتحولت المؤسسات الصحية العامة لمرافق ارتزاق ، وعقود تشغيل لشركات محلية وخارجية ، وأُغرِقتْ الأسواق بالأدوية المغشوشة ، والخدمات الصحية الردئة ، والشهادات المشتراة ، في الوقت الذي ينبغي أن يكون النشاط الصحي الخاص إختياريا لمن أراد كمشروع استثماري حر يخضع للتنظيم والرقابة ، ويمنع فيه تضارب المصالح بكل أشكاله ، ويستهدف من يرغب وغير مرغم من المواطنين والمقيمين ذون فرض أو شرعنة .

وإذا الدولة فعلا جادة في تحقيق العدالة الصحية ، والتنمية البشرية ، والتقدم العلمي والبحثي ، والتطور في الخدمات الصحية ، عليها إعادة هيكلة النظام الصحي الموحد والفعال والمنصف ، وأن تعيد الاعتبار للتعليم الطبي العام ، وأن يكون المكان والملاذ للمتميزين والاذكياء والجادين وغيرهم لغيره ، وإيقاف التوسع في التعليم الطبي الخاص ، والخدمات الصحية الخاصة ، وإجراء تقييم وطني شامل للموجود والابقاء على من تتوفر فيهم الشروط والمعايير ، وأن تسعى الدولة في تطوير البنية التحتية الصحية وفق متطلبات العصر والعلم والحداثة ، وأن تدعم بلا حدود البحث العلمي ، والتخصصات الطبية الدقيقة ، وعليها أن تعمل على تنفيذ وضمان التغطية الصحية الشاملة لجميع المواطنين أينما كانوا وحيثما وجدوا بجودة عالية ، وأن تبحث عن طرق تمويلية إنسانية وغير قذرة تحقق الدفع مقابل النتائج والقيمة ، وتخضع للرقابة والشفافية والحوكمة والمساءلة .

ولن تتحقق نهضة صحية دون نهج وطني متجذر في واقع البلاد وليس مستنسخ من تجارب لا تشبهها ولا تشبهنا ، ولن تتحقق العدالة الصحية ، ولن يتطور التعليم الطبي في ظل المثلث المدمر .

الصحة والتعليم ركائز السيادة وليسا سلع يتداولها أصحاب المصالح ..

 

شاهد أيضاً

هاشم شليق

هل آتاك تاريخ ليبيا؟

هاشم شليق عرض خبير وعالم الآثار الأمريكي كارل تويتش عبر فيديو رسومات ليبية منقوشة في …