منصة الصباح

الأَعباءُ الأُسرِيَّةُ فِي الفاتُورَةِ المَدْرَسِيَّةِ

باختصار

بدأ العام الدراسي الجديد، فوجد أولياء الأمور أنفسهم في سباق مزدحم مع قوائم طويلة من المتطلبات التي تفرضها المدارس الخاصة، فلم يعد الأمر يقتصر على دفع الرسوم المرتفعة فحسب، ولا في ثمن الكتب والكراسات والأقلام والحقائب، بل أصبح أقرب إلى قائمة شروط متشددة، يتضمن أنواعاً محددة من الكراسات، وألواناً معينة للأغلفة، وأحياناً أدوات لا يعرف الطفل نفسه سر ضرورتها.

      بعض المدارس الخاصة باتت تتفنن في ابتكار الطلبات، فتجد في القائمة: ورق ملون بدرجات محددة، علب مناديل بأحجام معينة، منظفات، وأحياناً لوازم غير تعليمية لا تمت للدرس بصلة.

هذا المشهد يتكرر كل عام، لكنه يزداد قسوة في زمن الأزمة الاقتصادية، حيث يئن المواطن الليبي تحت ثقل الغلاء وتدهور الدخل، فولي الأمر الذي بالكاد يوفر القوت اليومي، يجد نفسه أمام فاتورة مدرسية تضاهي أحياناً ما يدفعه في شهر كامل من المصاريف المنزلية. وهنا يصبح السؤال مشروعاً: هل المدرسة مؤسسة للتعليم أم عبء إضافي فوق كاهل الأسرة؟

      وإذا ما ألقينا نظرة إلى الماضى، نجد فارقاً شاسعاً بين مدرسة الأمس ومدرسة اليوم. قبل عقدين، كان الطالب يدخل إلى الصف بحقيبة بسيطة، وبداخلها دفتران وقلم رصاص وممحاة، لم تكن هناك أغلفة ملونة، ولا تعليمات صارمة تفرض لونا للرياضيات وآخر للعلوم، كانت البساطة هي العنوان، والهم الأكبر هو أن يتعلم التلميذ ويحفظ ويكتسب المعارف والعلوم. لم يكن أحد يحاسب على لون غلاف أو شكل الحقيبة، بل كان التلميذ يقيّم بمدى اجتهاده وأخلاقه داخل المدرسة.

        أما اليوم، فاللافت أن المتطلبات لا تخضع لمعيار موحد، بل تختلف من مدرسة إلى أخرى، وكأنها تتسابق في استعراض الطلبات.  مدرسة تطلب غلافا أزرق للرياضيات وأصفر للعلوم وأخضر للتاريخ، وأخرى تصر على حقيبة بعجلات، وثالثة تلزم الآباء بدفع مساهمات إضافية تحت عناوين مختلفة: صيانة، أنشطة، دعم، حتى أضحى واضحاً للجميع أن التعليم تحول من حق مكفول إلى مشروع استثماري.

        إن الخاسر الأكبر في هذه المعادلة هو التلميذ، ففي الوقت الذي يجب أن ينشغل فيه بالتحصيل والاندماج في محيطه الجديد، يعيش أجواءً من التوتر التي تنعكس من هموم والديه، إذ أن الطالب الذي يأتي بدفتر لونه مغاير، أو حقيبة متواضعة، يصبح عرضة للنقد أو التمييز، وكأن المدرسة تربي الأطفال على الفوارق الطبقية لا على روح المساواة.

 ولعل الأخطر أن هذه الظاهرة تعزز في المجتمع سلوكيات استهلاكية غريبة عن واقعنا، إذ يختزل التعليم في الشكل لا في المحتوى، وتتحول الحصة الدراسية إلى عرضٍ للألوان والمستلزمات، بدل أن تكون ميدانا للعلم والمعرفة.

 المطلوب اليوم أن تقف وزارة التربية والتعليم أمام هذه الفوضى، ليس فقط بأن تصدر تعميماً واضحا يحدد المتطلبات الأساسية فقط، بعيدا عن المبالغات التي تستنزف جيوب المواطنين، بل وتتابع المدارس لضبط المخالفين، فتنزل بهم العقوبات التي يستحقون.

    كما ينبغي إعادة الاعتبار لفكرة بساطة المدرسة، حيث كان الطالب في الماضي يخرج إلى العالم متسلحا بالعلم والجد، لا مثقلًا بقوائم المشتريات.

 في النهاية، يبقى التعليم رسالة ومهنة ضمير قبل أن يكون مدخلاً تجارياً، ومسؤولية قبل أن يكون بنداً في فاتورة من احدى قرطاسيات تاجوراه. وإن أرادت مدارسنا أن تنهض فعلًا، فعليها أن تعود إلى جوهرها: ملء العقول لا الحقائب.

د. على عاشور

شاهد أيضاً

تسجيل إصابات بطاعون المجترات الصغيرة في مدن بالشرق

تسجيل إصابات بطاعون المجترات الصغيرة في مدن بالشرق

سجلت إصابات بمرض طاعون المجترات الصغيرة الذي يصيب الأغنام والماعز في عدة مناطق من شرق …