منصة الصباح

حَتَّى الفُولُ بْرُوتِينٌ

د. علي عاشور

 مر أسبوع على دخول الشهر الكريم، ولكن يبدو أن الصيام لم يقتصر على الامتناع عن الأكل والشرب فقط، بل أصبح أيضاً صياماً عن التسوق بسبب الأسعار التي تواصل التحليق دون رحمة، تاركة المواطن في حالة من الذهول أمام أرقام لم يكن يتخيلها حتى في الكوابيس.

       يسير المواطن في الأسواق كمن يتجول في صالة محاكات افتراضية، يقرأ الأسعار بدهشة كأنه يتفحص لوحات فنية في متحف عالمي، يقترب من رفوف المنتجات، يتمعن في الأسعار، ثم يتمتم متسائلاً: أهذه أسعار سلع أم فواتير كهرباء متراكمة؟

      عندما تتخطى أعتاب المحلات ستجد الحليب متفاخراً بنفسه داخل الثلاجات، وكأنه أصبح سلعة مخصصة للنخبة، أما الزيت فقد صار يتحدث بفخر كأنه زعيم قبيلة، بينما التمور، فرغم أننا نصدرها بكميات، تجدها في رمضان بأسعار تجعلنا نشك أننا نستوردها مع ضرائب الرفاهية وتذاكر السفر على الدرجة الأولى.

 أما اللحوم فالأمر أشبه بحلم بعيد المنال عند الكثيرين، فعندما تسأل الجزار عن السبب، يبدأ بسرد قصته المعتادة عن الدولار، وغلاء الأعلاف، وشح الأمطار، وصولاً مرتب الراعي… ثم يختم حديثه وهو يضرب بسكينه الكبير على الذبيحة المعلقة: هذا حولي وطني، قداش نعطيك منه؟ لكن عندما تسمع سعر الكيلو، ستتراجع بهدود للخلف، كما يتراجع الخائف عند رؤيته حيواناً مفترساً يتهيأ للهجوم.

 لم يعد شراء كيلو لحم قراراً عادياً، بل أصبح مشروعاً اقتصادياً يحتاج إلى دراسات معمقة واستشارات متخصصة، وربما تمويل خارجي، فالمواطن الليبي اليوم لا يذهب إلى الجزار ليشتري بل ليحلم، ينظر إلى اللحم، ثم إلى أطفاله، ثم يتمتم بحزن: حتى الفول بروتين… على قولت هذاك الراجل.

أما بعض التجار، فيعيشون وحدهم في عالم آخر، يظهر الواحد منهم في البداية شخصاً طيباً متعبداً، يبتسم لك قائلاً: (والله ما نحب نغلي عليك، لكن السوق مولع)، وعندما تدقق، تكتشف أن هذا (السوق المولع) لا يحترق إلا في جيب المواطن، بينما عند التجار، فهو في قمة البرودة والاسترخاء.

وفي المساء، حين تجلس العائلة أمام التلفزيون، تنهمر الإعلانات عن السلع والمنتجات المغرية، فيشعر المواطن لوهلة أن الرخاء قد سيطر على الأسواق الليبية في كافة أنحاد البلاد، لكنه عندما يذهب إلى المحلات يكتشف أن العرض الوحيد المتاح هو: ادفع دم قلبك وخذلك علبة زيت.

لهذا أصبح التسوق في رمضان اختباراً لصبر المواطن، فإما أن تقتنع بالقليل، أو أن تذهب للأسواق لا للشراء، بل لممارسة رياضة المشي البطيء مع وضع يديك خلف ضهرك، وتؤدي طقوس التأمل والتمني.

      ويبقى رمضان شهر البركة على المسكين، أما هؤلاء التجار، فلهم بركتهم الخاصة، حيث يزكون من جيوب الناس على مدار ثلاثين يوماً، فهل يواصل المواطن المسكين الإنفاق رغم الغلاء؟ أم يكتفي بالمشاهدة؟ فهو لا يملك إلا أن يردد ليرضي نفسه وأطفاله: حتى الفول بروتين.

 

شاهد أيضاً

الاصابعة والحكومة في مرمى النيران

  كل شيء كان يجري بسرعة .تلتهم النيران البيوت في الاصابعة بينما كان الأهالي منشغلين …