حقبة
محمود البوسيفي
إذا جاز تقسيم العصور التي تمر بها الأمم والشعوب والدول إلى حقب تميز كل واحدة منها، تحت ظروف تاريخية أو مرحلية – قضية أو ظرف تاريخي يفرض أشكالا من السلوك السياسي أو الاقتصادي أو حتى الاجتماعي الذي يأخذ عادة طرائق مختلفة في التغير ـ إذا جاز ذلك فمن المؤكد أن المراقب المحايد سوف يقع في حيرة حقيقية وكأنه يدلف إلى كهف تحكمه العتمة اللزجة وهو يتخير اسما للحقبة التي تمر بها الأمة العربية وأنا هنا أتوقع بعض القراء يتمتمون: هي هنا وصياحها فى الوادي.. أو شن جاب رأسها لقعرها».. لا بأس فنحن حقا جزء من هذه الأمة.
لم تعد المعارك السياسية ونحن في العقد الثاني من الألفية الثالثة هي صاحبة التحولات، ولا التغيرات الاقتصادية هي اللاعب الوحيد، وأختفت أو تكاد الشعارات الرافضة لأية أصوات تعلو على صوت المعركة، كما لم تعد لقمة العيش – وما أصعبها – في سعي المواطن العربي وهو يخرج من بيته صباحا إلى حيث لا أين !!
فلسطين صارت برنامجا في الفضائيات.. والعراق في خبر كان.. والسودان سودانان.. وسوريا في قبضة الاحتمالات الملوثة بالدماء ووحل المؤامرة.. والصومال مجرد ذكرى.. ولبنان على وشك.. وليبيا وما أدراك ما ليبيا، دول تقع ما بين الأمنيات الطيبات والاستغوال والتوحش والروح الانتقامية والحقد والقتل والذبح والفتك والنهب وما لا يحصى من فجائع وفظائع.. النفط مجرد رقم في النشرات الاقتصادية ويحتل أهمية أكبر بكثير جدا من الدم البشري.. التنمية أكذوبة.. والثقافة كماليات لا لزوم لها.. والوحدة تاريخ قديم.
المراقب المحايد سيء الحظ يتعثر في عتمة الكهف العطن، ولن تسعفه الذاكرة في إنارة موطئ ،قدميه وسيضطر حتما لتلمس طريق الخروج بحثا عن عون يكفيه مشقة العثور على الكلمة السحرية وسط ركام الثرثرة … الحقبة الاستعمارية.. الحقبة الاستقلالية.. الحقبة القومية .. الحقبة الثورية.. الحقبة السعودية.. الحقبة الفلسطينية.. الحقبة الكارثية.. حقب متداخلة ضاعت خلالها ثلاثة أرباع فلسطين واحتلال إسرائيل للبنان واحتلال أمريكا للعراق، واحتلال إيران لجزر أمارتية وإضرام الحرائق فى تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، وهاجرت خلالها آلاف العقول، وأنهار التعليم، وتكرست القطرية وتهشمت ثوابت وتبدلت قيم وأهدرت ثروات.
كانت العصبيات في تلك الحقب محمولة على السياسة بتعقيداتها وعقائدها.. والمظاهرات والمسيرات والمهرجانات والملتقيات كانت تبدأ وتنتهي وسط أجواء الهتاف السياسي والعقائدي وشعاراته
الملتهبة.. الأحصائيات والبيانات التنموية العربية كارثية حيث لم ينجح أحد فى التغلب على غول الأمية، مثلما لم ينجح أحد في القضاء على الفقر أو تحجيم مخاطر الأوبئة والأمراض التي تتناسل.. كل هذا يجعل نوايا المراقب شديدة الهشاشة وهو يحاول توصيف الحقبة بأنها تنموية مثلا .. خاصة وهو يرى رأي العين تصاعد مؤشر الاحتقانات على مجمل الأوضاع العربية بما يلغي تماما أي دلالة لمفهوم الاستقرار.
ليس جلدا للذات ولكنها محاولة لتأطير المشهد المأتمي الذي تعيشه الأمة منذ نحو قرن وهي تتخبط دون بوصلة أو حيث لا جدوى، اللهم الا إذا أعتبرنا المظاهرات الحاشدة التي شهدتها بعض العواصم العربية تأييدا لانتزاع أحد المطربين أو المطربات قصب السبق في المسابقات الغنائية على الشاشات أو فوز أحد الفرق الرياضية فى مسابقة ما .. هي المؤشر الواقعي للبوصلة الجديدة وهو يتحرك صوب حقبة جديدة ، تفترض مساحة أخرى للفعل يزيح عنوة مشمولات الحقب القديمة ويؤثث مناخاته القادمة ببرامج مختلفة، العواصم العربية التي تتنافس على القنوات الفضائية في مسابقات الغناء والطرب تشتبك في معارك طاحنة للظفر بلقب سوبر ستار في نفس الوقت بالتحديد الذي يموت فيه الناس يوميا في ليبيا وسوريا والعراق وفلسطين والسودان.. في نفس الوقت بالتحديد الذي يتكدس فيه ملايين الشباب على أرصفة العطالة.. في نفس الوقت بالتحديد الذي تنتهك فيه القيم وتبتذل الأخلاق ويفتك بالهوية.. في نفس الوقت بالتحديد الذي تهاجر فيه عقول الأمة وتسرق المقدرات جهارا نهارا وتنهب الثروات.. في نفس الوقت بالتحديد الذي تجرجر فيه الأمة نحو مزيد من التبعية والارتهان.
المراقب المحايد وهو يقف مترنحا .. متلعثما.. مرتبكا .. قبالة الضوء الساطع يغمر مدخل الكهف تحوطه أصوات صادحة بالغناء والرقص، لم يكن بمقدوره للخروج من مآزقه سوى إطلاق اسم الحقبة الطربية.. الغنائية الراقصة .. الموسيقية.. الهز وسطية.. الكروية.. ويتخلص من الحرج في مواجهة أمة كانت هنا.. أمة ضحكت من جهلها الأمم.