محمد الهادي الجزيري
عيد سعيد علينا جميعا بعد أيام قليلة ..دون استثناء ، بكلّ أصنافنا وأنواعنا الكثيرة والمتنوعة ، بالكامنين في مقاهي اليسار وبالمتستّرين بعباءة التقوى والعفّة ، وحتّى لا ننسى أحدا ، نحيّي المراوحين في ” البين بين ” المائلين مع الريح حسب مزاجها الظرفي ، ولا أستثني نفسي كذلك فكلّنا جبابرة بامتياز، لا نؤمن بوجود كائنات أخرى تخالفنا الرأي وإن تظاهرنا بعكس ما نبطن، وما هذه الأهوال التي تعصف بنا من كلّ جانب وفي كلّ قطر عربي إلاّ خير دليل على ما أصدح به اليوم ، صراحة صرت على يقين حادّ كالخازوق أنّ العقل العربي مهووس بالإقصاء ولا دين له غير محو الآخر، تمعّنوا في ما يحدث لنا على طول الخريطة العربية : سباب وشتائم مخجلة ، اتّهامات متبادلة بالخيانة والكفر وغيرها من الاتّهامات المحليّة والمستوردة ، ضرب ولطم وركل وسحل في مياديننا المغبرّة الحزينة ، حيل بدائيّة يقوم بها الجميع لإلغاء حقّ الآخرين في التعبير والتفكير وفي الوجود أصلا ، وكلامي هذا ينطبق على جميع التيّارات دون استثناء جهة واحدة ، فلا يسار ليبيرالي ولا يمين معتدل ، لا شيء غير نفاق عربيّ مذهل ومقزّز ومتّفق عليه ، كاذب من قال أنّ العرب اتّفقوا على أن لا يتّفقوا ، فقد اجتمعوا على حبّ النفاق وعشق النفي وادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة ، من ذلك مثلا أنّ ابن أحد الأساتذة الجامعيين التونسيين والنقّاد الأجلاء كفّره هكذا دفعة واحدة ، ولم يكتف بذلك بل اتّهم جميع أفراد العائلة بالضلال ، وقد آلمني أن أرى ذاك الحزن البالغ والحسرة الفادحة على وجه أستاذنا الجليل ، هذا القليل القليل ممّا يعتمل اليوم في بيوتنا وقرانا ومدننا ، فكيف لا أشكّ في قدرة العقل العربي على قبول الآخر؟ ، وكيف لا أتطرّف أنا الآخر في رأيي والحال أنّي أستبطن نفس الفكر وأحمل ذات الجينات العربيّة الغريبة العجيبة ، لست بصدد ازدراء قوميتي ولكنّي حزين حتّى الضياع ومتألّم مثل ملايين الجموع التي خرجت لمواجهة رصاص الفراعنة الجدد والمطالبة بالحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة ، ولم تجن غير هذه الفوضى الدمويّة المرعبة ، لم يحدث أن تلعثمت وارتبكت واحترت مثل هذه الفترة التاريخية الحرجة والخطيرة ، أحيانا أعلّل نفسي ومن حولي بأنّ الأمّة تعيش مخاض الثورة الثقافية الكبرى ، وأحيانا أؤكد لليل والنهار وما بينهما من شجر وحجر وبشر أنّ العقل الغربي اللئيم كاد لنا المكيدة العظمى ، وقد أُصاب بالبكم لساعات طويلة وأعتزل الخلق بدءا بزوجتي المرتعبة وأبنائي المتحمّسين لرؤية ” دم الأعداء ” ، ولا أعداء إلاّ نحن ، لا خطر قادم إلاّ من فكرنا الإقصائي المتنكّر في أشكال تعبير شتّى وتعلاّت واهية وشعارات ثوريّة ما أنزل الله بها من سلطان ، مثل ” نموت نموت ويحيا الوطن”، ولست أدري بمن سيحيا الوطن إن تواصل هذا الاقتتال الأهلي والتطاحن الشعبي ، أعلم أنّ أغلب قرّاء هذا البوح حزانى مثلي وناقمون على الوضع الذي آلت إليه الانتفاضة العربية بعد عشر سنوات على اندلاعها ، وهم في غنى عن مثل هذا الشجن الآخذ لشكل مقالة صحفيّة ، أعلم ذلك ولكن ما بيدي حيلة ، ثمّ إنّه حديث الابن لأهله وشكوى الكهل لأصحابه وبوح الملتاع لدمه المسكوب في الشوارع والساحات ، فمعذرة إن أسقطت عليكم غيماتي وليكن شفيعي لديكم أنّني لم أستثن نفسي من جمهرة المرضى بالإلغاء والإقصاء ، وما هي إلاّ محاولة عفويّة للتصالح مع الإنسان الكامن فيّ ، الإنسان الداعي إلى احترام الآخرين وقبول حقيقة التنوّع والتعدّد والاختلاف.