منصة الصباح

حدث لي ..في صيف قديم

 

بقلم /محمد الهادي الجزيري

ذكرت قبل أن أصاب بالزهايمر وقبل تفشّي الفوضى في كلّ شيء، وكان ذلك في سياق القيام بمهمّة توزيع كتابي ” جنّة الذئب “، أني أفلحت في إقناع أحد المسؤولين الثقافيين باقتناء عشرين نسخة منه، فتوجّهت فرحا مسرورا إلى محطّة سيارات الأجرة الرابطة بين المدن، وسلّمت الأمانة الغالية إلى سائق الصدفة الذي كان على وشك الهبوب إلى المدينة الحلم.. المدينة التي أكرمني مسؤولها الثقافي بتخفيف الثقل ” الأدبي ” الجاثم على ظهري، ..أنا بدوري أكرمت السائق وأوصيته خيرا برزمة الكتب، فهي والله بعض نفسي، أوَلمْ أودع ” جنّة الذئب ” البعض منّي؟،ألستُ مقيما في كلّ صفحة من جنّتي اللغويّة؟، لذا كان لا بدّ من الحرص على توصيته وتكريمه خاصة…

في الطريق إلى المعتقل الأسَري الجميل، شاغبتني بعض الهواجس وبعض المخاوف المرافقة لها، صحيح أنّ سيارة الأجرة انطلقت نحو مقصدها، وصحيح كذلك أنّ بعضي، أو لنقل : رزمة الكتب في أمن وأمان وفي انتظارها أيد أمينة، صحيح كلّ ما ذكّرتني به نفسي أثناء صدّها للهواجس الوقحة، لكن ماذا لو شرد السائق الشاب قليلا وهو يقود بعضي إلى المدينة الحلم؟، من الأرجح أنّه قابل للعشق في سِنّه تلك،وللعشق أفاعيل رهيبة لطالما جرّبها عليّ، كعدم القدرة على التركيز والرغبة الملحّة في الغياب كلّما غاب المحبوب، وغير ذلك من المحن والعذابات، صراحة لا يهمّني كثيرا أمر السائق الشاب ، فالأعمار بيد الله، ما يزعجني حقّا أن يضيع كتابي إن وقع حادث مرور، ليس خوفا من تلاشي المبلغ المالي الذي كان مقرّرا أن يصل إلى يديّ بواسطة سحر البريد، بل ثمّة مخاوف وفرضيات مرعبة أخرى، من ضمنها
:
ــ وقوع ” جنّة الذئب ” في يد صبيّة آمنة مطمئنة ، ودخولها جنّتي بمفردها واصطدامها بأشجاني المتجذّرة في النصّ، المؤكد أنّها ستعزف عن الدراسة وتحصيل المعرفة والعلم، فيكفي أن تخوض نهرا واحدا من أنهار الدم التي رسمتُها من وحي التاريخ العربي لتزهد في الحياة وهي في أوج تفتّحها وإقبالها على الدنيا…

ــ اختلاس أحد المتجمهرين حول حادث المرور لرزمة الكتب، كاملة دون نقصان جزء منّي، قد يبيعها لبائع فواكه جافة ، وأمسي بالتالي قراطيس يلقي بها الخلق في أماكن لا تليق بي صراحة، والأخطر من ذلك قد يكون الشخص المختلس من الغاوين ، من عشاق الأدب والبيان والتبيين، ومن المنتمين إلى ناد أدبي في أحراش البلاد، يا هول ما سيحدث إن هو وزّع النسخ على أعضاء النادي وتمّت مناقشة جراحي الفكرية وهلوساتي الشعرية بحضور جميع الأعضاء، وأنا أدرك تماما أنّهم غير متناغمين ،فقد أمسى الواحد منّا يثور على خلاّنه وأصفياءه وجيرانه ووالديه، وكلّ ما يتحرّك في مجاله الحيويّ، بل يعارض نفسه إن لم يجد من يعارضه.. فأحيانا ينام كلّ من حوله وحتّى سكّان الفيسبوك، ماذا سيفعل وهو الثائر..، عليه أن يتّهم أحدا ما بخيانة ما، وبالجهل مثلا أو الكفر على سبيل المثال
لنعد إلى خوفي من مناقشة كتابي في النادي الأدبي المفترض، وإلى الأعضاء المتناحرين خاصة، فمنهم الحداثيّ الذي سيدافع بضراوة عن حزني المبثوث في مدينتي الفاضلة التي اخترت لها اسم : ” جنّة الذئب ” ، ومنهم الانتهازي المنافق الذي سيسكب سمّه على النار وهو يبتسم للجميع ، ومنهم الكائن المغلق تماما .. الممتلك للحقيقة والناطق باسم الخلق والخالق، أحدس أنّه سيلقي كتابي والحداثيّ والانتهازي المنافق في نارٍ ما ويُغلق هذا النصّ.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …