بوضوح
كان حلم إيطاليا أن تضع السلطة في يمين عمر المختار، وتضع المال في يساره، مقابل أن يلقي بندقيته في أول مغارة بوادي الكوف، وينام على الجانب الذي يعجب روما.
ولكن ما فتشت عنه إيطاليا حتى في السماء السابعة، لم تجده على الارض الليبية.
كان كثيرون جدا من يهمهم أن يعيشوا ولو على حساب الوطن، ولكن عمر المختار كان يهمه فقط أن يعيش الوطن ولو على حسابه.
لم يختر هذا الرجل الاستثنائي أن يكون حاكما، ولم يختر أن يكون مالكا، ولم يختر الحصول على مرتب تقاعدي مريح من خزينة ايطاليا.
عمر المختار إختار فقط أن يكون عمر المختار.
لهذا ذهبوا جميعا، واحترقوا جميعا وذابوا جميعا في مستودع الماضي، وظل عمر المختار، وشما على ذاكرة عصية على النسيان.
فمن تستدعي ذاكرته اليوم أسم العسكري الإيطالي الذي وضع الحديد في يد عمر المختار، أو ملامح القاضي الذي أصدر حكم الإعدام؟
لقد ماتوا جميعا آلاف الموتات، وسقطوا جميع آلاف السقطات، وظل عمر المختار حيًا.
لم يكن يحمل جواز سفر إيطالي، ولا امريكي، فكل قلوب الناس هي جنسيته، فهو السفير الدائم لضمير وطني قدم له حياة اعتماده ذات مشنقة.
كانوا يتصورون أنهم يحاكموه، ولا يدرون بأنه هو من كان يحاكمهم.
وكانوا يتخيلون أنهم يقتلونه، ولا يدرون بأنه هو من كان يقتلهم.
رجل أعتز بوطنه كثيرا لدرجة الموت، فأعتز به الوطن كثيرا لدرجة الحياة.
فكم من الاموات أحياء، وكم من الاحياء أموات؟