جمعة بوكليب
زايد…ناقص
” دُوده من عُوده” مثل شعبي ليبي قديم، كان يستخدم كثيراً في الماضي. ولم أعد اسمعه يردد.
الدودُ المذكور في المثل، يُقصد به ما كان يتواجد أحياناً في بعض الفواكه المجففة مثل التمر والتين من دود، يظهر في وسط حبّة التمر الواحدة، لأسباب لا مجال للخوض فيها. وما يهمُّ هو أن ذلك الدود لا يقف حائلاً بين حبّات التمر والأكل. فكان الناس يأكلونه على اعتبار أن الدود لا يفسد للتمر طعماً، لأن عوده مصدره.
وفي تفسيري الشخصي للمثل، يمكنني القول إنّه بالرجوع إلى الوراء تاريخياً، إي إلى فترات زمنية قديمة، خاصة في فترات سنوات الجدب والمجاعة، كان الليبيون يضطرون إلى أكل حتى ما لايؤكل، هذا إذا وجدوه. ومن ضمن ذلك التمر القديم الذي كان يزخر بالدود في داخله. وبالتالي، ليس أمام المواطن لإطعام نفسه وأفراد أسرته، وخاصة الأطفال منهم، سوى اللجوء إلى أكل حبّات التمر بما في داخلها من دود. وربما يجد بعض الأطفال صعوبة في مجاراة الكبار في الأكل، فيضطر الكبار إلى نصحهم بعدم فلق حبّات التمر نصفين، والاكتفاء بأكلها من دون فتح، كي لا يرون الدود، ويمتنعون عن الأكل. وفي السياق نفسه، كانوا يحاولون اقناع أنفسهم أولاً، ثم اقناع الأطفال ثانياً، بترديد ذلك المثل:” دُوده من عُوده.” لكن النفس الإنسانية تتقزز من رؤية الدود، فما بالك أكله، ما لم تكن مضطرة. وحتى في تلك الحالة من الاضطرار كان لابد من إيجاد مبرر مقبول يحول بينها وبين التقزز، ويجعلها تقبل أكله. فجاء ذلك المثل ليسهل العملية، ويمنح ختم القبول.
النفس الإنسانية كما تتقزز من أكل الدود، تتقزز أيضاً من أشياء كثيرة، وعلى سبيل المثال، الفساد. لكننا حالياً نعيش في عصر استشرى فيه الفساد حتى أضحى أمراً عادياً نراه ونرتكبه فلا نتقزز. وكما لجأ الليبيون قديماً لأقناع أنفسهم بأكل الدود المتواجد في حبّات التمر والتين الجاف، لجؤوا كذلك، في هذا الزمن، إلى تبرير الفساد، كي يمكنهم الانغماس فيه من دون تعرّضهم إلى التقزز من أنفسهم ومما يرتكبون. ونشأ عن ذلك ثقافة شعبية هائلة، تبرر الفساد، وتُكبر من شأن الفاسدين وتعظّمهم. وتسفّه في الوقت ذاته ممن يتعففون عن الوقوع في المستنقع، وتصفهم بأوصاف مهينة.
وإذا كان دُودُ التمر والتين قد جاء من عُوده، فمن أين جاء الفساد؟ هل جاء من عودنا، وبالتالي يُباح فعله، ولا يُجرّم؟ أو هل جاء من خارج عودنا، أي من خارج ثقافتنا وترابنا وحدودنا؟
دُودُ التمر غير دُود الفساد. من الممكن أن تأكل الأول تحت مبررات عديدة مقبولة، ومن غير الممكن أن نأكل الثاني، ونبرره علمياً أو أخلاقياً أو دينياً أو قانونياً. ولا يمكن كذلك تعليق الأمر على مشجب أنّه ثقافة مستوردة. دُود الفساد مثل دُود التمر، غير مستورد، وبذوره قديمة في التراب الوطني، وفي الجينات البشرية. والفساد المستشري في بلادنا على أعلى المستويات وأدناها، ليس وليد ثقافة مستوردة، بل منّا وفينا. فنحن وإن مضى على استقلالنا أكثر من سبعين عاما، مازلنا نرى الدولة والحكومة كيانين غريبين ومعاديين. ومازلنا نجد لأنفسنا المبررات لاستباحة ما يخصهما من أملاك وثروات. المشكلة أن انغماسنا في الفساد “زاد على ما وصّوه”، فاصبحنا لا نتورع عن ارتكابه حتى ضد أقرب الناس إلينا، من دون الحاجة إلى مبررات.
والأسوأ من ذلك، أن من يكشفون الفساد والمفسدين يتعرضون لمطاردة الأجهزة الأمنية والحكومية، ويصبحون عرضة للاعتقال والحبس والشماتة.