زايد…ناقص
جمعة بوكليب
حرصي على مشاهدة مختلف الألعاب الرياضية، لا يعني أني أفضلها جميعاً. هناك ألعاب أفضلها وأخرى لا تثير اهتمامي. وأدى ذلك عبر السنين، إلى تأسس قائمة تراتبية بأفضلياتي.. القائمة طويلة نسبياً، لكنها لا تقارن، في كل الأحوال، بطول قائمة أعداد المترشحين للرئاسة في ليبيا، ويقيناً لا تضم لعبة الكريكيت -(Cricket)، رغم كل محاولاتي البائسة لبناء علاقة ودية معها. لا أستطيع أن أضع إصبعي على سبب بعينه، أو أسباب، تقف حائلاً بيني وبينها. إذ تبيّن لي أنني كلما ازددت إصراراً على بناء علاقة ود وتفاهم معها، ذهبت محاولاتي أدراج الرياح. لذلك السبب، ارتأيت أن أترك الأمر للزمن، على أمل أن تتغير الأمور في نفسي، وربما أقع، ذات يوم، في حبها. هذا الأمل الموعود، تحديداً، دفعني، من حين لآخر، على إجبار نفسي على الجلوس، ومتابعة ما تنقله المحطات التلفزيونية من لقاءات على المستوى الانجليزي المحلي، أو على المستوى الدولي. خلال جلسات المتابعة الطويلة تلك، وجدت نفسي أتعلم قوانين اللعبة ( إلى حد ما.) وأســـــــماء الفرق المحلية ( ليس كلهم.) و أسماء اللاعبين، والمعلقين (المشاهير منهم فقط.) ولفت اهتمامي اختلاف اللاعبين في طريقة حذف الكرة. وشدتني منهم نوعية معينة يطلقون عليهم في اللغة الانجليزية اسم (Spinners). ومفردها (Spinner) والفعل (ٍSpin) ولها معان عديدة لدى ترجمتها إلى اللغة العربية. لكن في سياق اللعبة المذكورة تعني اللاعب الذي يقذف بالكرة ليس في خط مستقيم معتمداً على شدة وسرعة الكرة كأنها طلقة، بل يقذفها بمهارة، بأن يجعلها تدور كمغزل، حتى يصعب على اللاعب المقابل تتبع خط سيرها، وردها بالمضرب.
التدوير لا يقتصر على لعبة الكريكيت بل يطال كذلك السياسة. إلا أني لا أعرف على وجه الدقة إن كان التدوير في السياسة أسبق منه في لعبة الكريكيت أو العكس. أسبقية اللعبة السياسية على لعبة الكريكيت في الظهور تاريخياً، يجعلني انحاز إلى فكرة أن التدوير عُرف وأستُخدم فيها وتطور كفن ومهارة أولاً.
في السياسة أكتسب التدوير شهرة غير عادية من قديم الزمان، وحظي أصحابه بمكانة مرموقة، ويطلقون عليهم في بريطانيا وصف دكاترة التدوير- Spin Doctors. بعضهم يظهرون على السطح، وبعضهم يفضلون غزل ألاعيبهم وراء أبواب مغلقة، وبعيداً عن عيون الإعلام، وسطوع الأضواء، كعجائز على المسدة. وهم جميعا يتواجدون لأجل تدوير حدث سياسي عن مجراه، وتحريف معناه ليس كذبا، بل بخلق معنى آخر له، يكون مجاوراً له في الأفهام، وبعيداً عنه في الواقع الفعلي، لكنه يكسب حكوماتهم شعبية، أو يقلل من حدة اصابة شعبيتها في استبيانات الرأي العام. وعلى سبيل المثال، ولتوضيح الأمر، يمكننا الاستشهاد بواقعة، تساعد على تقريب المعنى. في حرب الأيام الستة، في شهر يونيو عام 1967 اكتسحت القوات الاسرائيلية جيوش ثلاث دول عربية، وألحقت بها هزيمة منكرة. و لتدارك الأمر بقصد تخفيف الصدمة سياسياً على الشعوب العربية، وتقليل شدة ردود فعلهم على قياداتهم السياسية والعسكرية، اخترع الكاتب الصحفي المصري المرحوم محمد حسنين هيكل وصف ” نكسة” لتكون بديلاً عن وصف ما حدث بالهزيمة. وبالفعل، بدأت ماكينات الإعلام المصرية والسورية والاردنية وغيرهم في استخدام وترديد ذلك الوصف حتى ساد. وصارت تلك الحرب تعرف عربياً باسم نكسة 5 يونيو. المسافة بين الهزيمة والنكسة ليس سهلاً تجاوزها لغوياً أو سياسياً، أو القفز عليها واقعياً، لكن هيكل – رحمه الله – بخبرته ودهائه السياسي والإعلامي تجاوز تلك المسافات كلها بنجاح، وأثبت أنه دكتور تدوير بامتياز.