د. الهادي بوحمرة – عضو لجنة صياغة مشروع الدستور
تشكلت الهيئة التأسيسية على اساس تمثيل مناطق ليبيا، وعكست بذلك تطلعات الليبيين في مختلف انحاء ليبيا. وطرحت في جلساتها تصورات الليبيين بشأن بناء دولة ليبيا المستقبل. ومن اهم المسائل التي نالت اهتمام اغلب اعضاء الهيئة مسألة الضمانات الدستورية اللازمة لتنمية متوازنة تحقق المساواة الفعلية وتكافؤ الفرص الحقيقي بين مواطنيها بمختلف اماكن تواجدهم. لأنه بدون تنمية مكانية متوازنة لن يكون هناك مساواة وتكافؤ فرص حقيقي بين المواطنين. فالوضع القائم حاليا يتصف بفجوة بين المناطق المحلية من حيث تركز السكان والنشاط الاقتصادي وتوزيع المرافق الخدمية ويعكس تنمية غير متجانسة ولا مساواة وتباينات عميقة في مستويات التنمية بين المدن. وهو الامر الذي يجب وضع اسس للحد منه وضمان اعادة التوازن والحد من التوترات الاجتماعية الناتجة عنه، والتي لا يمكن اهمالها او السكوت عنها تحت اي حجة كانت. وبناء على ذلك، طرحت العدالة المحلية وما تتطلبه من ضمانات لتوزيع التنمية بين جغرافيا البلاد. وحدث من خلال ذلك ربط مباشر بين العدالة الاجتماعية والعدالة المحلية، لان الهدف يجب ان يكون تعديل الفروق في مستويات التنمية بين مختلف المناطق. وحتى مع فرضية وجود هذا التباين لاسباب طبيعية او اجتماعية، فإن على الدولة ان تقوم باستنباط الحلول للتطوير المحلي. الأمر الذي يسمى في دول المغرب العربي بـ (التهيئة الترابية).
ونتيجة لذلك، تم الاتجاه نحو وضع اسس دستورية للحقوق المكانية لدعم حقوق الانسان فعليا في كافة انحاء ليبيا. فكانت البداية بباب المقومات التي نص على رفع مستوى المعيشة للمواطنين والعدالة الاجتماعية كأحد اسس الاقتصاد في مادته التاسعة عشرة. وهو الامر الذي يستوجب بالضرورة الانصاف الجغرافي وتكافؤ الفرص بين الافراد الذي يستوجب تكافؤ فرص بين المناطق المحلية. كما ان ادارة المرافق العامة توجب- وفق نص المادة 26- ضمان حق المنتفعين في تلقى خدماتها بانتظام واطراد. وهو ما يوجب توزيعها جغرافيا وعدم تركيزها في مناطق معينة من ليبيا. وجاء نص المادة 27 تحت عنوان العدالة الاجتماعية والتنمية ليضع التزاما على دولة المستقبل بوجوب تأهيل القري والمدن على مقتضيات العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والمتوازنة وضمان توزيع عادل للمشروعات والمصالح والشركات العامة بين المدن، بما يكفل توزيع فرص العمل وتشجيع الاستثمار والانشطة المناسبة فيها. ويلزم في نفس الوقت الدولة بإزالة الاختلالات التنموية.
وبعد ان نص المشروع في المادة 57 على ان الصحة حق لكل انسان وواجب على الدولة والمجتمع وضمان الدولة للرعاية الصحية الشاملة، ألزم الدولة بالقيام بالتوزيع الجغرافي المناسب للمرافق الصحية. واقترن النص على حق ممارسة الرياضة هوية واحترافا بضمان توفير منشأتها المناسبة للمناطق وفق حاجتها سواء بالقيام بذلك مباشرة او بوضع الاطر التشريعية والتنفيذية التي تؤدي لذلك. وفي اطار توزيع مؤسسات الدولة، نصت المادة 165 من باب الهيئات الدستورية، على ان توزع الهيئات المستقلة جغرافيا وفق قانون يصدر من مجلس الشوري الذي يضم المجلسين (مجلس النواب ومجلس الشيوخ).
كما نصت المادة 175 من باب النظام المالي على اسس المالية العامة ومن بينها توزيع الايرادات الوطنية بشكل منصف بين مستويات الحكم المحلي بما يراعي السكان وتوزعهم في الوحدة المحلية وبعدهم عن المركز ومستوى البنى التحتية والخدمية ومؤشرات التنمية المكانية والبشرية، وقيدت اعداد الموازنات الحكومية بكفالة وصول الخدمات بشكل فعال وعادل للمواطنين. ونص المشروع في مادته الرابعة والثامنين بعد المائة على ان الثروات الطبيعية ملك للشعب الليبي تمارس الدولة السيادة عليها باسمه وتعمل على استغلالها وحمايتها وتنميتها واستثمارها وحسن ادارتها بما يضمن المصلحة العامة وانتفاع كافة المناطق منها بشكل عادل وبما يحفظ حقوق الاجيال القادمة، وفي مادته السادسة والثامنين بعد المائة على تخصيص نسبة من عوائد الثروات غير المتجددة لإنشاء مشاريع بديلة تعطى الاولوية فيها لمناطق الانتاج في حدود امكانياتها المكانية ولوازم تطوير بناها التحتية وللرفع من مستوى المناطق الاقل نموا.
ومن أجل ضمان فاعلية ذلك، تم بناء نظام الحكم المحلي على اللامركزية في اطار وحدة الدولة على أن تمارس من خلال ديمقراطية محلية تنبثق منها هياكل تسيير منتخبة. فمجالس المحافظات والبلديات يجب ان تكون منتخبة، على ان يراعى في تشكيل مجلس المحافظة البلديات الواقعة في نطاقها (م157)، وللوحدات المحلية شخصية اعتبارية واستقلال اداري ومالي وتدار وفق مبدأي التفريع والتدبير الحر (م156،158)، على ان تكون الدولة حاضرة لضمان انتظام المرافق العامة واستجابتها للمعايير الوطنية العامة(م161)، وان تضمن التوازن المالي بين وحدات الحكم المحلي، وذلك بعد ضبط نص المشروع مسألة تمويلها وربط الاختصاصات بما يناسبها من موارد مالية. (159).
وفي اطار تصميم الهيئات الدستورية، نصت المادة 173 على استحداث هيئة التنمية المستدامة ومن اختصاصاتها الدستورية التوصية بالتدابير المناسبة لتحقيق التنمية المستدامة والمتوازنة واقتراح السياسات والخطط والبرامج المناسبة لبناء القدرات وتنميتها بما يكفل تقارب المستوى التنموي بين مختلف المناطق وتقييم الخطط التنموية وكيفية تنفيذها.
———-