زايد …ناقص
بقلم /جمعة بوكليب
كلما تقدم الانسانُ في العمر، كلما أزداد التفاتاً إلى الخلف. هذة ليست حكمة متأخرة هبطت عليَّ من سماء انتهت علاقتها بالأرض منذ أكثر من خمسة عشر قرناً. بل خلاصات لتجارب بشرية، وخبرات انسانية موثقة ومعروفة. وتفسيري لذلك، هو أن شدّة الحنين إلى الماضي قد لا يكون هدفاً في حد ذاته، بقدر ما هو محاولة للتعويض عن فراغ الزمن الحاضر، وخلوه من الحياة. وليس توقاً إلى سعادة مفقودة حالياً، وحزناً واحباطاً على ما ضاع، وتسرّب من عمر، كماء من بين أصابع يدين هرمتين. بل، ربما، محاولة أخيرة، لاتختلف عن اطلاق آخر سهم تبقى في جعبة صياد، لاصطياد فريسة متخيّلة، بهدف تحقيق نوع من توازن نفسي داخلي، يتيح لصاحبه الاحساس بشيء- ولو كان قليلاً- من شعور بالرضا عن النفس، وعلى حياة عاشها، طولاً وعرضاً، وخرج منها بقبض ريح، تكون تفاصيلها العديدة زاداً له فيما تبقى من أيام في أجندة عمر فقد بريقه، وتلاشت حيويته.
الانسان، وأحسرتاه، عرضة للذبول والفناء، وليس خالداً كالفن. الله الذي أبدع خلق الكون، وزينه بالكائنات باق، وما أبدعه من كائنات جميعها مصيره الفناء. والانسان الذي أبدع الفن فانٍ، وما أبدعه من فن مصيره الخلود. هذه مفارقة لكنها صحيحة، وقد تكون، من وجهة نظر البعض، وأنا لست منهم، غير منصفة للانسان.
الفن الجميل لا يذوي، لأنه، ببساطة، عابرٌ للزمن، وللأجيال. ويظلُ، رغم مرور السنين وتقادم العهود، محافظاً على طزاجة روحه، ينأى بها بعيداً كي لا تطالها مخالب الذبول وأنياب الفناء. ويظل لذلك، بدينامكية عجيبة، قادراً على غواية القلب الانساني، والتسلل إلى أبعد حناياه، وأسره. وهذا يفسر، إلى حدّ ما، سر انجذاب الكثيرين منّا، من مختلف الأجيال، وبمختلف الطرق والوسائل، إلى أغان أو مواويل وقصائد، أو مسرحيات وأفلام، أو روايات وقصص وحكايات، أو لوحات ورسومات تفصلنا عنها عشرات السنين.
” تلات سلامات ياوحشني” أغنية قديمة، لا أتذكر متى سمعتها أول مرة، عبر موجات الأثير، ولا أذكر أين. لكنني، مؤخراً، استيقظت ذات صباح صيفي، ووجدتني أرددها بما يشبه الهمس بيني وبين نفسي. ولا أعرف تفسيراً للطريقة التي تسللت بها، عن غفلة من ذاكرتي، وتفتحت بموسيقى أزهارها، وبعذوبة صوت ” محمد قنديل” في صمت بستان صباحي ذاك، وقد سرحت شمسه في حديقة بيتي، تلعب، كطفلة، لاهية، غير مبالية، بما تراكم في قلبي من أسئلة بأنياب تنين.
” تلات سلامات ياوحشني” أغنية قد لا تثير أهتمام كثيرين، لكن القليلين الذين، ربما صدفة، تجذب آذانهم شرقية نغماتها، ويوقد الشوق الكامن في طيات كلماتها قلوبهم، قد يتوقفون لدى سماعها عن فعل ما يفعلون مؤقتاً، لكي يتيحوا الفرصة أمام أرواحهم لتستروح قليلاً، ولتخفف عن نفسها ما تراكم فوقها من غبار وعناء وتعب، وكذلك، كي يتيحوا للشجو والشــــــــــوق في نبرات صوت ” محمد قنديل” العبور إلى دواخلهم، ليوقظ شجوهم وحنينهم، وليبعثوا بسلاماتهم إلى من أوحشوهم ويفتقدون، في زمن حلَّ به وباء، وأستفرد بأهله فيروس من جهــــــــــــــــنم اسمه ” كورونا”، وحُجرت النفوس في البيوت توقياً من هلاك محتمل. لكن ذاكرات القلوب ظلت، رغماً عن الزمن والوباء، حيّةً، شديدة الالتصاق بالحياة وبالأمل، تستعيد تفاصيل ماضيها، وتبتهل إلى الله كي يجنّبها الاصابة، ويمكّنها من عبور صراط الوباء بسلام، والوصول إلى ضفة السلامة. عندها، ربما يطيب لها، بقليل من مزاج رائق، أن تفرح بعودة الحياة وتألقها، ولتردد مع صوت قنديل: “تلات سلامات ياوحشني.”