خلود الفلاح
تظهر خبرات الطفولة عادة في كتابات الأدباء، وكيف تشكلت رؤاهم فكريا وعاطفيا ومعرفيا ونفسيا.
تتحدث الكاتبات (حواء، وكوثر، وخديجة) عن بداية علاقتهن بالقراءة في مرحلة الطفولة، وكيف مهدت تلك القراءات الطريق للكاتبة اليوم؟ كان للام الحكاءة، ومجلات مثل الأمل وماجد، والمكتبة المنزلية
التي عادة ما تضم موسوعة كبيرة من المؤلفات دور يستحق الإشارة إليه عند التحدث عن قراءات مرحلة الطفولة ومن كان لهم الدور في دعم موهبة القراءة.
القراءة المنطوقة
وتشير الشاعرة حواء القمودي إلى أن “متى”، هذا الاسم الدال على الزمن، يستدرجني لأعود إلى هناك، حيث مخبأ الذكريات، وحيث تلك البنت حوا، أحبّت الحروف، وأحبّت نغم الكلمات وهي تتلون بأصوات زميلات الصف، ربما منذ الصف الأول ابتدائي، إذا متى، حيث الزمن يمتد، والذكريات تتقافز، والبنت في (القرمبيول الأكحل) تنتظر صوت الجرس كي تقف في طابور تحية العلم، ولكن يدًا حانية ربتت على ظهرها، وحين رفعت وجهها رأت بعينيها الجميلتين، وجها صبوحا بعينين سوداوين وضفيرة ناعمة يؤرجحها الهواء، وهكذا وقفت أمام السبورة الكبيرة لتبدأ رحلة الكتابة فتكتب جملة طويلة تبدا بهذا النشيد: لا، ولتسمع التصفيق ويد المعلمة الناعمة ترفع يدها عاليا، كانت بالصف الثالث والذي كتبت جزءا منه على السبورة، كان درسا بكتاب القراءة للصف الخامس.
ويعني ذلك، بحسب صاحبة كتاب “وردة تنشب شوكها” اللحظة الحقيقية التي كانت هي الزمن الحقيقي لبدء علاقتي بالقراءة، كانت في صيف1973م، تلميذة نجحت الأولى على صفها الرابع ابتدائي، وعطلة صيفية ووقت طويل، وبين اللعب مع الصويحبات والاهتمام بإخوة صغار، ثمة قيلولة هادئة والوقت متاح وصندوق أخيها الذي يضع به كتبه الدراسية يناديها، جاست يدها الصغيرة بين الكتب ولكن ثمة كتيب صغير ويظهر اسمه بارزا ومغريا (الزنبقة السوداء)، أخذت مكانها على (السّدة) واتكأت على حائط يلونه (التازير)، وبدأت تقرأ، وهكذا بدأت الرحلة الحقيقية مع عالم القراءة، حيث عرفت البنت حوا، حين قرأت هذه الرواية، أن ثمة عالم موازٍ، وحياة أخرى نستطيع عيشها، إذا سؤالك هو متى بدأتْ علاقتك بالقراءة؟ أظنني أجبت على سؤالك، الذي جعلني أحفر في هذا الزمن، وأوقن أن تلك اللحظة حين أمسكتُ بيديّ تلك الرواية وشممت رائحة الورق فعلا كانت هي البداية.
ونسألها، هل قراءات الطفولة كان لها تأثير في وجودك ككاتبة اليوم؟ فتقول: سؤال آخر يأخذ بتلابيبي ويشدّني، نعم، هي مسافات شاسعة من الحنين التي سأعبرها لأبحث في فحوى سؤالك عن إجابة، لكن هي إجابة حاضرة تتكأ على إجابة السؤال الأول في جزء منها، ولكن جزء آخر تستدعيه الذاكرة، يبدأ من تلك الحكاءة أمي زهره، ورغم انشغالاتها كامرأة من ذاك الزمن، حيث كل لمسة في عيشنا تحتاجها حاضرة، زوجة وأمّ تبدأ نهارها قبل أذان الفجر، ولكن ستجد لي مساحتي الخاصة وتحكي لي، تلك الحكايات التي ترسم بها طرقا ودروبا وتغذي عقلي بأفكار وآراء وتنشأ روحا تفيض بالمودة، حين أعاود تذكر بعض الحكايات التي احتفظت بها ذاكرتي، أكتشف ذكاء الشعوب وهي تحافظ على ديمومتها عبر موروث شاسع، والحكاية ضمن هذا الموروث، إذا ربما إذا صحت التسمية (القراءة المنطوقة) التي كنت أعيش تفاصيلها مع حكايات أمي، وضعت البذرة، بذرة أن أكون كاتبة، ولكن اليقين أني سأكون كاتبة جاء مع الرواية التي طوّبتني قارئة شغوفة، تحكي لصديقات طفولتها عن شغفها بكل ورقة تلوح في أي مكان، تنحني وترتبها لتقرأها، ( الزنبقة السوداء) جعلتني أتمنى أن أكون قادرة على هذا الفعل (فعل الكتابة)، وسَمت حنيني اللافح وجعلتني أوقن أن هذا الطريق لي .
مكتبة بيتنا الكبيرة
بدأت علاقة القاصة خديجة رجب رفيدة بالقراءة في سن مبكرة. وتضيف: “كانت والدتي رحمة الله عليها تجلسني بجانبها في المطبخ وتطلب مني قراءة قصة لها من قصص الصحابة، وقراءة بعض الموضوعات من مجلة العربي، والفقرات الأدبية والثقافية من مجلة زهرة الخليج.”
وتحدثت صاحبة كتاب “عرس” على تدريب والدها الدائم لها على القراءة، فمثلا عندما يعود من العمل متعبا يطلب منها قراءة الجريدة ولا ينسي أن يأتي محملا بمجلة ماجد وسلسلة المغامرون الخمسة.
تؤمن صاحبة كتاب “بداية” أن الكاتب هو قارئ في الأساس، ولولا تشجيع العائلة ووجود مكتبة كبيرة في البيت. كل هذا كان له الأفضل في وجود الكاتبة التي هي أنا.
متعة قراءة المجلات
وتلفت الروائية كوثر الجهمي، إلى أنها كثيرا ما حاولت تذكر أول قصة قرأتها، وفي كل مرة لا تسعفها الذاكرة، لكن ما تتذكره أنها كانت سعيدة عندما تعلمت التهجئة. وأضافت: مثلي مثل أطفال كثر، أحاول قراءة أكبر عدد من لافتات المحلات، ربما كان هذا أول تمرين لزيادة سرعة القراءة، ربما كان هذا تحديدا ما جعل معلمات الصف الثاني والثالث فخورات بي! لا أدري، أنا فقط كنت أستغرب حين أجد أحدهم يواجه صعوبة في تهجي كلمة، حتى الصف السادس، وكنت أودّ لو بإمكاني تقديم مساعدة ما، ولكني لا أجرؤ على ذلك خوفًا من سوء الفهم. بالعودة لموضوعنا، ما أعرفه أن مجلة الأمل كانت تصل بيتنا قبل أن تتكوّن ذاكرتي الدائمة، كانت قراءة قصص الأطفال عبر المجلات عملية بديهية، روتينية، مثلما لا أذكر متى شربت كوب “الشاهي والحليب” الأول.
وتتابع صاحبة كتاب “العقيد” هناك ذكرى مميّزة جدًّا، إذ تحصّلتُ على أول سلسلة قصص خاصّة بي هديّة فزت بها في إحدى مسابقات مجلة الأمل عام 1992م، ورغم انها لم تكن بجودة سلسلة المكتبة الخضراء، ولكنها كانت الأحبّ والأقرب لقلبي، قرأتها كلّها، ربما كانت 10 قصص أو أكثر. أول رواية ربما “جين آير” أو “نساء صغيرات”، فقد قرأتهما في نفس الفترة، أعارتهما لنا ابنة عمي بعد معرض طرابلس للكتاب، أيام كان ثمة معارض كتاب دولية تقام في طرابلس، أظنني نتأتُ جرحًا! المهمّ أن الاكتشافات توالت بعد ذلك، اكتشفتُ غادة السمان وكان هذا الاكتشاف هو النقطة الفاصلة في رحلتي والشرارة التي أوقدتْ الرغبة في الكتابة. بتُّ أميّز المواضيع الأحبّ إليّ، أما متعة قراءة المجلات فلم أفقدها حتى يومنا هذا رغم أني لا أتحصل عليها بصورة دورية.
وتستدرك صاحبة كتاب “عايدون” هل كان لرحلتي مع القراءة دور فيما أنا عليه؟ لا أعرف حقيقةً، فقد نشأت في البيت نفسه مع شقيقاتي وشقيقي الأصغر، تربينا على نفس المنوال، وكانت القراءة جزءًا من حياتهم هم أيضًا، ومازالت كذلك بالنسبة لأخي، ولكنها لم تُفضي إلى الكتابة، ولكنني أعتقد -كما أسلفتُ- أن قراءاتي في أدب غادة السمان كانت مدخلي لعالم الكتابة، أردتُ ان أكتب بوضوح وسهولة مثلها تماما، أردتُ ان أعبر عن مشاعر معقدة بكلمات بسيطة، ولا أظنني أفلحتُ بعد، لكن هذا لا يهمّ، ما يهمّني حقًّا أني أعرف نفسي قارئةً قبل الكاتبة، فالقراءة هي الأمّ.