علي المقرحي
المعنى هو الامكانية الوحيدة أمام الموجودات جميعا ليكون لكل منها قيمة تخصه ، كما أنه المصدر لكل قيمة ، فما ليس له معنى لاقيمة له ، أما ما يحدد ذلك فهو الوعي الذي لا يمكن فصله عن ملكات وأدوات وآليات تحققه ، فالوعي ببحثه في دلالة وجود الموجودات ( أي معاني ذلك الوجود الذي لا يتحقق إلا بتلك الموجودات ومن خلالها ) يكتشف تمايزات وتباينات فيمابين تلك المعاني وفيما بين الموجودات التي تجسدها ، الأمر الذي يفيد أن المفاضلة نتيجة طبيعية لذلك الاكتشاف ، والمفاضلة بين الموجودات وبالتالي بين معانيها هي نفسها ” التقييم ” أي تحديد قيمة كل موجود من الموجودات ، وكي لا ينهار كيانه او يفقد ذاته لا بد للوعي من أن يحرص على ديمومة معناه وعلى وضوحه وعدم تداخله مع غيره من المعاني ، وتجاوز راهنه إلى زيادة بيان ذلك المعنى وجلاءه ، وأن يولي قيمته المعقودة بناصية ذلك المعنى ، نفس القدر من الاهتمام والحرص ، وهو ما يفيد بالخلاصة تأكيدا لأهمية وضرورة تطوير الوعي نفسه وارتقاءه ، لتتنامى قدراته وإمكانيات تحديده للمعاني المتباينة والمختلفة ، ومفاضلته بين قيم الموجودات التي تجسد تلك المعاني وعندما يخبرنا الوعي بتلك المعاني ويسميها ، ويعلن القيم المرتبطة بها فليس بمقدوره أن يأتي بشيء من ذلك إلٰا في حدود قدراته المحكومة من بالقدر الذي لديه من التطور والارتقاء ، وفي هذا تفسير لتفاوت مستويات الفهم وتباين قدرات البشر على استيعاب معاني ما يواجهه وعي كل منهم من موضوعات ، بقدر ما فيه من إلحاح على أهمية معرفة الوعي نفسه أي ( وعي الوعي ) وتلك مهمة الوعي الإهم من كل مهامه الأخرى ، حتى أنها لاتقل أهمية عن تلك التي دعا سقراط الانسان إليها ، بل يمكننا القول انها المهمة السامية نفسها بغير كلمات سقراط .
وإذا بدا بديهيا أن البيئة ( المأخوذة هنا بما يوافق أكثر دلالاتها اتساعاً وشمولا ، أي العالم الذي يعيش فيه الانسان ويعايش مكوناته الطبيعية والبشرية والثقافية ) التي نشأ وينشأ الوعي فيها ، هي الوجهة الأولى التي لا بد للوعي من أن ينتبه إلى حضورها ويتجه إليها في رحلة تعرفه إلى ذاته ، فمن البديهي كذلك أن فهمه لبيئته يتوقف على مدى تطوره وإمكانية الإحاطة بها واستيعابها ، إلى جانب مدى يقظته وانتباهه إلى التباينات والاختلافات القائمة بينه وبين بيئته ، بحيث لا يرى نفسه جزأاً منها ، ولا يراها امتدادا له ، بحيث يكون من دلائل تطوره وارتقاءه بارزا بجلاء عبر تمييزه بين ذاته من جانب وبيئته من جانب آخر ، وتلك خطوة ضرورية لامناص للوعي من أن يخطوها لأنها خطوة تطورية إضافية من معانيها أنها ليست رفضاً للبيئة أو نبذ لها ، ولا هي تنصل من الإرضية التي نبت فيها وتغذى من نسغها ، بل تعني الاحترام للذات ولما يغايرها ، ولخصوصيتها وخصوصية ما يختلف عنها .
إلى ذلك لايستوي الحديث عن الوعي ( الذي تتميز به الذات الإنسانية ) دون التطرق إلى علاقته بالفطرة الانسانية ، التي ترفد تميز الانسان عن كل ماعداه وتؤكد ذلك التميز ، بل أن ذلك التميز شرط لازم لسواء الفطرة ، بحيث لا يعبر عن فساد الفطرة أن يكون مجرد رأس في قطيع وأن يقبل ذلك ، أو أن يكون ترساً في آلة ، بل إن ينظر إلى غيره بذلك المنظور أي باعتباره رأساً في قطيع أو ترساً في آلة ، فليس من فساد الفطرة الخضوع للآخر والانصياع لإملاءاته فقط ، بل أيضا اية محاولة لاخضاع الآخر وارغامه على قبول ما يعن من املاءات ، بهذا المعنى وبالنظر إلى الوعي من زاوية قيمية ، يمكن القول أن الموقف الذي يتخذه الوعي من القيم السائدة في عالمه ، وهل هو موقف قبول لتلك القيم واستمراء لما يترتب عنها من نتائج تؤثر عليه وعلى ؟ أم أنه موقف امتعاض وضيق قد يصل حد الرفض ، أو موقف تساؤلي نقدي هدفه فهم تلك القيم واكتشاف ما يعتورها من تناقض ، بهدف إصلاحها أو حتى استبدالها بقيم مغايرة تكون أكثر عقلانية وموضوعية واتفاقا مع سنن الوجود والحياة وقوانين التطور .
واذا لم نغفل عن منطلقنا القائل أن المعنى هو الامكانية الوحيدة أمام الموجودات ليكون لكل منها قيمة تخصه ، فلن يكون طرحنا السؤال عن ( معنى ) القيمة خروجاً عن موضوعنا ، ولا انزياحا عن سياق النقاش .