منصة الصباح
طارق القزيري

المعارضة في ليبيا: مدنيون بلا سردية سياسيون بلا مشروع !

طارق القزيري

في كل مرة نستقبل صورة دعوة لملتقى وطني جامع، ومؤتمر سياسي يناقش الأزمة الليبية، ويعد منظموها بالكثير، لكنها وعود تبدأ من اللغة وتنتهي عندها. 

يبدو وكأن هذه الفاعليات تتعامل مع الازمة بوصفها نقصا في النوايا، لا قصوراً في الادوات، فتنتج خطابا مدوياً عن الوحدة والسيادة والعدالة، دون ان تبني طريقا يمكن السير عليه.

الفشل هنا ليس فشلا معرفيا فقط، بل فشل تصميم: وغياب رؤية تغيير تحدد ما الذي يجب ان يتحرك اولا، ومن يملك القدرة على تحريكه؟. وما هي العتبات او الخطوات الواقعية التي يمكن كسبها تدريجيا؟

حين تغيب هذه الهندسة السياسية يتحول اي ملتقى الى لحظة رمزية جميلة، ثم يتبخر اثرها بمجرد مغادرة القاعة،

يعتقد النشطاء ان صدق النية سيقنع اطرافا ولّدت اقتصاد حرب، مراكز قوة مسلحة، شبكات ريعية، مصالح غامرة، وفاعلين خارجيين، بالتراجع تلقائيا، فهل يمكن أن نحسد أحدا على وهم سياسي كهذا؟

غياب قاعدة تاثير وقدرة ضغط

الخلل الاكبر ان غالبية التجمعات الوطنية تتحدث باسم المجتمع دون ان تمتلكه تنظيميا.

لا قاعدة عضوية واضحة، ولا امتداد محلي في البلديات، ولا شبكات مهنية فاعلة، ولا اتحادات مستقلة قادرة على التحريك. في بيئة متشظية،

الشرعية لا تولد من النوايا، بل من القدرة على تمثيل مصالح اجتماعية ملموسة او الدفاع عنها.

حين لا تستطيع المبادرة ان تقول: هذا حجمنا، وهذه دوائرنا، وهذه مطالبنا، وهذه قدرتنا على التعبئة او المقاطعة او خلق رأي عام ضاغط، تصبح مجرد ناد نخبة يتبادل الخطابة مع نفسه.

يزيد الامر سوءا ان المجتمع المدني في ليبيا تعرض لثلاث ضربات متزامنة:

اولا : ضربة التسييس الحاد الذي جعل كل كيان مدني مشبوها بالاصطفاف،

ثانيا: ضربة الامن الذي جعل النشاط مكلفا وخطرا.

ثالثا: ضربة التمويل الذي حول بعض المنظمات الى واجهات مشاريع لا جذور لها في المجتمع

والنتيجة ان المواطن العادي لا يرى في كثير من العناوين المدنية اداة لحمايته او تحسين حياته، بل يراها موسمية، او نخبوية، او مرتبطة بتمويل خارجي، او مجرد واجهة للتسويق السياسي. وعندما يفقد الفعل المدني ثقة الناس، يفقد مصدر قوته الوحيد.

التواصل كبديل زائف عن السياسة

كما أن كثيرا من المبادرات تتوهم ان المشكلة في التسويق، فتشتري لغة وطنية لامعة، وشعارات جامعة، وصورا جماعية، وتغطيات سريعة، ثم تفاجا بان الاثر صفر. كيف يمكن تذكيرهم أن التواصل ليس بديلا عن السياسة، بل اداتها؟.

التواصل الفعال يحتاج رسالة مرتبطة باحتياج، وسردية تقنع، وخصما محددا، وهدفا قابلا للقياس، وزمنا، وادوات متابعة.

الرسالة السياسية العامة جدا، والخصم الغائب، والهدف الضبابي، يجعل الحملات مجرد ضجيج يمر فوق سطح الازمة دون ان يلامس اعصابها.

ثم هناك خطا افدح: تجاهل توازنات القوة. بعض الفاعلين المدنيين يظنون ان اعلان موقف حاسم ضد الميليشيات او ضد التدخلات الخارجية يكفي. وهذا جيد للخطابة في ميدان عام، لكنه في ميزان الواقع يحتاج تقديرا دقيقا لمنظومة الردع والعقاب.

ثمة اسئلة لا يجب ان تطرح فقط، بل يجب العمل على توفير إجاباتها نظريا وواقعيا: من يسيطر على الارض؟ من يسيطر على المال؟ من يسيطر على الاعلام؟ من يملك القدرة على التعطيل؟ من يخاف ممن؟ من يحتاج ماذا؟.

دون خريطة مصالح ومخاوف لا يمكن بناء خطاب يفتح ثغرة، ولا يمكن اختيار لحظة ضغط، ولا يمكن حماية الفاعلين من ارتدادات الموقف.

لماذا تعطل المجتمع المدني اليوم؟

تعطل الفعل المدني في ليبيا ليس قدرا، بل نتيجة بنية كاملة. الدولة ضعيفة وغير قادرة على حماية المجال العام، فيتحول الفضاء المدني الى منطقة رمادية تتنازعها سلطات امر واقع.

الاقتصاد ريعي ومجزا، فيسهل شراء الولاءات او تحييدها بالمنافع، وتصبح السياسة منافسة على الموارد لا على البرامج.

فوق ذلك، كثير من العمل المدني وقع في فخ “الانشطة” بدل “المسارات”. ورش عمل، بيانات، ملتقيات، توصيات. لكنها لا تتحول الى برنامج ضغط، ولا الى شبكة مصالح، ولا الى خدمات او حماية او وساطة اجتماعية تخلق شرعية.

في بيئة ازمة، المجتمع لا يصدق من لا ينتج اثرا صغيرا ومستمرا. النضج السياسي هنا يعني شيئا بسيطا لكنه حاسم: ان تبني مسارا واقعيا، يربط بين خطاب واداة، وبين مطلب ورافعته، وبين تحالف ومكسبه، وبين فشل ومراجعة علنية.

بدون ذلك تبقى الوطنية خطابا جميلا، لكنه غير قادر على منافسة امر واقع يملك السلاح والمال والقدرة على التعطيل.

اذا ارادت المبادرات الوطنية ان تترك اثرا، فعليها ان تنتقل من منطق الاعلان الى منطق التشغيل: تحديد معركة قابلة للكسب، بناء قاعدة محلية حقيقية، انتاج كلفة على من يعرقل، وخلق منفعة لمن يلتزم، ثم توسيع الدائرة.

هكذا فقط تصبح الارادة مشروع قوة مدنية سلمية، لا قصيدة وطنية اخرى، في زمن علامته قسوته المحزنة.

كما تحدث “نيرودا” عن اليد التي “تمتد من قاع المعاناة، لا من سطح الخطابة”.

شاهد أيضاً

جمعة بوكليب

في مَديح رُعاةِ الغَمام

جمعة بوكليب زايد… ناقص رُعاة قُطعانِ الغَمام غير رُعاة قُطعانِ الأغنام. الإختلافُ بَيّنٌ، والهُوَّةُ بينهم …