الهادي بوحمرة
عضو هيئة مشروع صياغة الدستور
تداخلت نزواتهم وآراءهم لرسم المتاهة، أكثروا من تعرجاتها، ضاعفوا- رويدا رويدا- من دوائرها، تنازعوا خرائطها، باعدوا بين بداياتها ونهاياتها. تحولوا من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها.
منهم من يعمل لحساب نفسه، ومنهم من يعمل بمقابل، ولا خروج من المتاهة؛ إلا بعد ضمان علو شأنهم، وحماية غنائهم، لديهم القناعة بأنهم أو من يعملون لحسابهم هم فقط أهل الحكمة والسياسة، ولا يليق بهم أن يكونوا من عامة الناس.
لأجل حماية مصالحهم، وتغليب أهوائهم، نقلوا الثابت إلى متغير، ونقلوا المتغير إلى ثابت، دفعوا بالموروث وقت الحاجة، وكسروه وقت الحاجة، وسعوا المقدس أحيانا، ومرقوا منه بالتأويل كما يمرق السهم من الرمية أحيانا أخرى، يرونه- أحيانا- حاملا لوجه واحد، وأحيانا أخرى حمال أوجه، ما يشاركون فيه هو عمل مبارك، وما لا يشاركون فيه هو عمل استخباراتي ملعون، مشكوك في أمره.
لا يدفعون بمسار إلا بعد ضمان نتائجه، وإلا فإنه معيب، لا مفر من نقضه، دون أن يعنيهم لا من قريب تداخل أنكاثه، ولا من بعيد جهد إعادة غزله، قلبوا الأمور بعد أن وصلت إلى منتهاها رأسا على عقب، فلا عهد يعنيهم، ولا التزامات تحكمهم، ولا مسطرة محددة يقفون عندها، يفصلون النتائج على الأسباب متى أرادوا، ويربطونها متى أرادوا.
هكذا هي حظوظ الشعب تختلف من مجتمع لآخر، فهناك نخب تدفع للأمام، ونخب تشد إلى الوراء، يرون أنفسهم ظاهرين على الناس، ولسان حالهم (ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، يتمسكون بالاحتكام للناس، ثم يقطعون عليهم السبيل، ثم يلعنونهم، ويقذفونهم بأقبح الأوصاف، قد يحرقون المراحل، وقد يقفون طويلا عند كل منها. كل فئة منهم لها حل واحد، يجب أن يختاره العوام، وإلا فلتذهب البلاد إلى الجحيم، لا فروق تذكر بينهم وبين العسكر، هما وجهان لعملة واحدة، فكلاهما أحادي التفكير، وكلاهما يخشى اللجوء إلى الشعب؛ لقول كلمته، ربما يتفوق عليهم العسكر بوضوحه، فهم أكثر قدرة على الخداع. خلعوا من وصل، وليس من مذهبهم، وحرقوا أوراق من ليس من مدينتهم. تفننوا في كشف عورات بعضهم البعض، نسجوا الأدلة على فساد خصومهم، رموهم بالفواحش، وألبسوهم أثواب الشياطين، فوسائل مواجهة المعارضة لديهم أشد ضراوة من آلات العسكر، فالأخيرة تنال أكثر من الحرية والجسد والحق في الحياة، والأولى تنال أكثر من الدين والشرف والسمعة، من السهل أن يبيض يوما، ولو بعد موته، من سوده العسكر، ومن الناذر أن يبيض من شوهته بزورها وبهتانها نخب يعلو بعضها على بعض باسم القبيلة أو الحزب أو المدينة.