منصة الصباح

الفن والتاريخ

بقلم / جمال الزائدي

ليس من وظيفة الرواية ان تؤرخ ..التأريخ مرتبط بمنهجيات علمية تضعه في سياق أبعد مايكون عن الفن الذي ينتمي إليه السرد الروائي..

الفنون بانواعها ليست معنية بالحقيقة الموضوعية ، مع انها وعلى هامش فاعليتها الابداعية يمكنها دون غائية مضمرة توثيق ظلال الحدث التاريخي ورصد تفاصيله الانسانية التي لاتعتني بها كاميرا المؤرخ ..

في رائعته الخالدة ” قصة مدينتين ” يستخدم الروائي الانجليزي الأكثر شعبية حتى الآن ، تشارلز ديكنز ” قدراته كاستاذ ضليع في النثر السردي ، لإعادة إنتاج الحدث المفصلي الاهم في تاريخ اوروبا الحديث ، ألا وهو الثورة الفرنسية 1789 م ، لينصبها كخلفية ثابتة  تؤطر تفاصيل القصة الانسانية المليئة بالمفاجآت والمبالغات المعروفة والمعول عليها كثيرا في أدب القرن التاسع عشر ..

عبقرية  الحكاية في “قصة مدينتين” لا تتجلى فقط في قدرة الراوي على الامساك بخيط الرواية الرفيع من البداية إلى النهاية دون ان تسمح للقاريء بإلتقاط أنفاسه خارج النص ..

لكنها تتجلى أيضا وتحديدا ، في التواشج البديع الذي خلقه “ديكنز” في متن السرد بين حبكة القصة المتخيلة التي تجري بين الابطال ، وبين ظلال الحدث التاريخي الواقعي الذي صور عبرها محنة الطبقة العاملة الفرنسية تحت القمع الوحشى للأرستقراطية الفرنسية خلال السنوات التي شهدت المخاض و قادت إلى الثورة، والوحشية التي مارسها الثوريون ضد الأرستقراطيين في السنوات الأولى للثورة ..من وجهة نظري عبقرية الرواية تجلت في التوظيف الفني لهذه المعطيات، هكذا في توازن بديع يراعي حساسية الصراع الانساني من كل زواياه وخصوصياته بالرغم من الحس الاجتماعي الذي تتمتع به شخصية تشارلز ديكنز كونه نتاج تجربة شخصية قاسية حرمته حتى من الدراسة النظامية في سن مبكرة ..

المخيلة مترامية الاطراف هي ما تمنح الكاتب القدرة على حياكة الشكل الادبي الذي نسميه العالم الروائي،  ليخلق صورة أخرى للتاريخ والذي سنعتبره دائما حجر ارتكاز في كل رواية يصنفها النقاد تحت اسم “رواية تاريخية ” مع التحفظ على هذه التسمية الملتبسة.

وفكرة أن نتخذ من الرواية مرجعية لاستخلاص المعلومات التاريخية ، هي فكرة تشبه إلى حد كبير  استخدام الخيال الفني في كتابة التاريخ دون مراعاة للشروط والضوابط العلمية التي لاغنى عنها ، كما فعل – على سبيل المثال لاغير – عدد من الساسة العرب ومنهم ليبيون في شهاداتهم المكتوبة التي قدموها كمذكرات سياسية أو سير ذاتية توثق لاحداث تاريخية وشخوص عاصروها وعملوا معها أو عملوا تحت ادارتها فجاءت شبيهة إلى حد كبير بقصائد الهجاء التي يمتليء بها ديوان الشعر العربي..

يمكن للتاريخ ان يكون مادة خام للفن وللرواية على وجه الخصوص كما هو الصلصال بالنسبة للخزاف أو الصخور و الخشب و المعادن بالنسبة للنحات ..لكن لايمكن كتابة التاريخ الحقيقي بأدوات القص الروائي التي لاتحدها حدود غير تخوم الخيال الشاسعة..

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …