حنان علي كابو
يخطّ الفنان التشكيلي الليبي إيهاب الفارسي مساره الخاص بثقةٍ هادئة وأسلوبٍ متدرّج.
من بواكير واقعية إلى مناطق تجريدية تنفتح على التأمل والفراغات المقصودة. يرسم ليقول ما لا يُقال، ويبوح بما تراكم داخله من همس اللون .
مرافيء الريح محطة جديدة
افتتح الفارسي معرضه الشخصي الثالث في مؤسسة براح للثقافة والفنون بمدينة بنغازي، يعرض فيها مجموعة من الأعمال الحديثة التي تواكب تحوّلات رؤيته للفن والعالم.
في هذا الحوار، يكشف إيهاب الفارسي عن علاقته بالفن، بالخيل، بالفراغ، وعن سبب ركونه للتجريد، ومدى حاجته لأن يُشرك المتلقي في لعبة التأويل، دون أن يفرض عليه معنى مسبقًا.
من المحاكاة إلى التعبير الحرّ
تبدأ أعمالك بشرارة من الواقعية وتنتهي بالتجريد، كأنك لا تريد لها أن تنتهي؟
في بداياتي، كنت أرسم محاكاة لما أراه، لكنني مع الوقت شعرت بالملل. انتابني إحساس قوي بضرورة التعبير بحرية عن ذاتي كفنان. شيئًا فشيئًا، بدأت جذوة المحاكاة تخفت، لصالح التجديد أو مقاربة ما بين الواقعي والتجريدي.
خطوات بطيئة لصوت فني واضح
كيف استطاع إيهاب الفارسي أن يحترف مهاراته منذ بواكير أعماله؟
في بداياتي، انصب تركيزي على دراسة الشكل، واكتساب خبرة في التعامل مع اللون. كنت أعمل بخطى بطيئة ومدروسة، حتى بدأ أسلوبي يظهر تدريجيًا، دون قفز على المراحل أو سعي وراء الشهرة.
الخيول.. ذاكرة طفولة وجماليات متجذّرة
ما الذي يأسرك تحديدًا في رسم الخيول؟
الخيل حاضرة في مخيلتي منذ الطفولة. كنت أرسمها كثيرًا، وكنت أطلب من عمي، وهو رسام هاوٍ، أن يرسم لي حصانًا، ثم أقلده. للخيل مكانة خاصة في ثقافتنا الليبية؛ فهي أحد أكثر الحيوانات وفاءً، إضافة إلى جمالياتها، التي تشدّني دائمًا من حيث الخطوط والانسيابية والرمزية.
البهجة الأولى لا تموت
تتمحور مناخات عوالمك التشكيلية حول حياة ماضية حيث البهجة والأمل. هل الفنان أسير لبهجته؟
نعم، الفنان أسير لبهجته منذ الطفولة. كل الأشياء التي شغف بها الطفل تبقى حاضرة في أعماله لاحقًا. تظهر هذه البهجة في الألوان، وبساطة التكوين، والاختزال.
الفراغ كمساحة تأمل وسكون
تمتلك ذائقة دقيقة في اختياراتك اللونية، وتحترف ترك مساحات بيضاء… كيف استطعت التوفيق بينهما؟
أنا أتعمد ترك بعض الفراغات في العمل. أراها مساحة تأمل صوفي، نوع من السكون والسلام الداخلي. لكنها ليست فراغًا ميتًا، بل فراغ حيّ، صاخب ومتفاعل مع بقية عناصر اللوحة. فراغ يُحرّك ما هو ساكن حوله.
الرهان على المتلقي وليس على الإبهار
تستدعي مخيلة المشاهد لإكمال ما تبقّى، هل تراهن على ذائقتك أم على انطباعه؟
العمل الفني حين يكون مكتملًا، لا يترك مجالًا للتفاعل، بل يُدهش فقط. أما أنا، فأحب أن يستفز العمل المتلقي، أن يشاركه في الرؤية، ويمنحه مساحة لتأويله. في أعمالي، أطرح الأسئلة، ولا أقدّم كل الإجابات. أترك للمشاهد حرية الاكتشاف، والتفاعل.
الفن بوابة الحرية رغم كل العوائق
الفن تحرر، ماذا منحك؟
الفن هو الحرية بعينها. هو لغة البشر جميعًا. لا تعنيني العوائق التي يُرددها البعض، سواء كانت فكرية بسبب الجهل بالفنون، أو دينية بأحكامها غير المنطقية، أو سياسية بسبب عدم الاستقرار. على الفنان أن يكون صلبًا، وأن يستمر في البوح والمساهمة، مهما كانت الظروف.
ما أرسمه يشبهني فقط
قلتَ: “الفن بالنسبة لي هو أنا وليس الآخر”. هل ترسم في الزوايا التي يصعب الكلام عنها؟
نعم، الفن هو أنا، تعبيرٌ إنساني خالص ينبع من الفنان. عليه أن يكون صادقًا، وألا ينجرّ خلف الشهرة بتقديم مواضيع “براقة” تُطلب منه. الفن رسالة نعم، لكنه أيضًا هوية. على الفنان أن يُميّز نفسه، ثم يصب ما يشاء من موضوعات دون تهريج أو تصنع.
أنا لا أرسم للمقاومة ولا أدّعي الخوض في قضايا لا تعنيني. أرسم ما أشعر به. قد تكون مشاعري مجردة أو غامضة، لكنها تُشبهني. لا أطلب من المتلقي الاستمتاع فقط، بل أريده أن يشعر، أن يتفاعل، ويبحث عن تفسيره الخاص.
التجريد مغامرة داخل الذات
ما الخلاصة التي منحك إياها التجريد؟
التجريد هو الخروج من المألوف إلى عوالم أكثر دهشة. هو كالسفر إلى مكان لا نعرف عنه شيئًا، نراه ونسمعه ونتفاعل معه. هو مغامرة، واكتشاف في دواخلنا، قبل أن يكون اكتشافًا لما حولنا.
ذكاء الفنان يكشف المسكوت عنه
هل على التشكيلي أن يتعامل بذكاء أمام لوحاته؟
نعم، الفنان يتمتع بذكاء فطري. هذا الذكاء هو ما يجعله قادرًا على اكتشاف مناطق غير مطروقة، وتسليط الضوء عليها من زاوية مختلفة. هو، بطريقة ما، من يقول المسكوت عنه.
في هذا الحوار، يتجلى صوت إيهاب الفارسي كفنان لا يبحث عن تفسير مُسبق للعالم، بل يترك للتجربة أن تُعبّر عن نفسها. لا يدّعي بطولة، ولا يتقمّص دور حامل الرسائل الكبرى، بل يُقدّم فنه كمرآة داخلية، صادقة، مجردة أحيانًا، وغامضة عن قصد. بين واقعيته الأولى وتجريده الحالي، نكتشف مسارًا صادقًا، لا يهادن، ولا يُساوم. إنه فنان يراهن على الذائقة، وعلى الذكاء، وعلى فضيلة الفراغ.