ترجمة عبدالسلام الغرياني عن BBC
في زاوية هادئة من مقهى صغير ببلدة “ريفرتون” بولاية فيرمونت، يُسمَع صوت نقرات إيقاعية تشق صمت الصباح.
إنها ليست ضربات على لوحة مفاتيح كمبيوتر، بل طقطقة آلة كاتبة قديمة من طراز “رويال” تعود إلى خمسينيات القرن الماضي.
هنا، يجلس الكاتب المحلي “جيمس ويلسون” يحرر مسوّدته الروائية الأخيرة، مُصرّاً على أن الآلة الكاتبة تُعطيه اتصالاً فريداً مع الكلمات.
“لا تشتتني الإشعارات أو الإنترنت. الأمر يشبه الحفر في الورق، حيث كل حرف يترك أثره إلى الأبد”، يقول مبتسماً.
ظاهرة لا تموت:
رغم هيمنة التقنيات الحديثة، لا تزال الآلات الكاتبة تجد طريقها إلى الحياة اليومية في مجتمعات أمريكية عدة. من مكاتب المحامين في نيو إنغلاند إلى مقاهي بورتلاند الفنية، تبرز هذه الأجهزة الميكانيكية كرمز للتمسك بالبساطة في عصر السرعة.
تقول “إلين كارتر”، أمينة متحف التاريخ المحلي في تكساس: “البعض يعدها قطعة نوستالجيا، لكنها بالنسبة للكثيرين أداة عمل حقيقية”.
لماذا الآلة الكاتبة؟
الأسباب متنوعة. ففي بعض الدوائر الحكومية الصغيرة، تُستخدم نماذج معينة من الآلات الكاتبة لإعداد الوثائق الرسمية التي تتطلب ختمًا ماديًا لا يمكن تزويره بسهولة.
أما بالنسبة للكتّاب والفنانين، فإن غياب خيار “حذف الأخير” يجبرهم على التفكير بعمق قبل طباعة كل جملة. يوضح “ماركوس لي”، روائي من كاليفورنيا: “الخطأ هنا ليس عدوًا، بل جزء من العملية الإبداعية.
يتعلم المرء تحمل مسؤولية كل كلمة”.
ولا يُخفى الجانب العاطفي. بالنسبة لجيل عاش جزءًا من حياته قبل الرقمنة، تمثل الآلة الكاتبة جسراً إلى الماضي. “أشعر أنني أقترب من أبي، الذي كان يكتب تقاريره الصحفية على آلة مماثلة”، تقول “سارة كونور”، معلمة متقاعدة من أوهايو.
تحديات البقاء:
رغم الحنين، يواجه المستخدمون تحديات في صيانة الآلات وإيجاد قطع الغيار.
هنا تبرز مجتمعات الهواة عبر الإنترنت، مثل مجموعة “Typewriter Insurgency”، التي توفر الدعم الفني وتنظم أسواقاً لتبادل القطع النادرة.
في نيويورك، يدير “لويس غوميز” ورشة إصلاح متخصصة، ويقول: “الطلب مستمر، خاصة على الآلات العتيقة. كل يوم أتعلم شيئاً جديداً عن هندستها المعقدة”.
الثقافة والهوية:
إنها هوية ثقافية في نهاية المكاف. في بلدة “رايزينغ صن” بمونتانا، يُقام مهرجان سنوي للآلات الكاتبة، يجمع الهواة والمحترفين لتبادل القصص وإقامة مسابقات الطباعة السريعة.
حتى المدارس بدأت تقدم ورش عمل لتعليم الأطفال تاريخ الطباعة الميكانيكية، كجزء من مشروع “عود إلى الجذور”.
المستقبل بين الورق والرقمي:
يشير الخبراء إلى أن استمرار استخدام الآلات الكاتبة يعكس رغبة إنسانية في التوازن بين العوالم المادية والافتراضية. تقول الدكتورة “أماندا رايس”، أخصائية علم النفس التقني: “في عصر الشاشات التي لا تنتهي، تمنحنا الأدوات اليدوية إحساساً بالتحكم والانجاز الملموس”.
ورغم أن السوق لن تعود إلى مجدها السابق، إلا أن شركات مثل “Swiss Mechanisms” ما زالت تنتج نماذج جديدة تجمع بين التصميم الكلاسيكي والتقنيات الحديثة، كوصلات USB لحفظ النصوص.
أكثر من مجرد ضوضاء:
عندما تسأل “جيمس” في مقهى “ريفرتون” عما إذا كان سيستبدل آلته الكاتبة بكمبيوتر محمول يومًا ما، يهز رأسه ضاحكاً: “هذه الآلة جزء مني. إنها تذكرني أن الكلمات يجب أن تُعاش، لا أن تُستهلك”. ربما يكون صوت النقر هذا درساً لنا جميعاً: أن التقدم لا يعني التخلي عن الماضي، بل إيجاد توافقٍ يحفظ للإنسان جوهره الإبداعي.