منصة الصباح
د.علي المبروك أبوقرين

الصحة بين الحق والسلعة

الصحة ليست مجرد غياب المرض أو الوهن ، بل هي الحياة نفسها ، هي القدرة الجسدية والعقلية والحركية ، والقدرة على الفهم والتعلّم والإنتاج والمشاركة في التنمية ، هي الأمان البيولوجي والروحي ، والراحة النفسية ، والخلو من الخوف والقلق والتوتر والاضطراب ، وهي كذلك القدرة على التواصل والتكاثر وتحمل المسؤولية واتخاذ القرارات المستنيرة ، ومن هنا ، تصبح الصحة شرطًا أساسيًا للكبرياء والكرامة الإنسانية ، وحقًا أصيلًا كفلته الشرائع السماوية ونصّت عليه القوانين والمواثيق المحلية والدولية .

كما عبّر الفيلسوف أرسطو: “الصحة هي أعظم نعمة ، وهي أساس كل السعادة.” أو كما جاء في توصيف منظمة الصحة العالمية “الصحة حق أساسي من حقوق كل إنسان، دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي ،
لتحقيق هذا الحق ، يجب أن تتوافر منظومة صحية عادلة وشاملة تقوم على : –

– التغطية الصحية الشاملة بحيث لا يحرم أي إنسان من الخدمة اينما وجد دون تمييز لا شخصي أو اجتماعي أو أقتصادي أو مكاني
– ⁠وتمويل عام عادل وشفاف يعتمد على التضامن الاجتماعي والعدالة في توزيع الموارد .

– ⁠وتعليم طبي رصين يشمل المناهج العلمية الحديثة والتدريب السريري المتقدم ، وإعداد كوادر قادرة على مواجهة التحديات ، واحتكاك مع الجامعات العالمية والمستشفيات الجامعية المتقدمة دوليا ، وشهادات معتمدة ومعترف بها في الدول المتقدمة علميًا وطبياً .

– ⁠وحوكمة رشيدة تضمن الشفافية والمساءلة ، وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين .

– ⁠والوقاية قبل العلاج تعزيز الصحة العامة ، والتطعيمات وحملات التوعية ، ورصد الأمراض قبل استفحالها .

– ⁠ضرورة توحيد النظام الصحي ومنع تفتيته أو تداخله بين العام والخاص شرط أساسي لتحقيق العدالة ، فالنظام الصحي الموحّد يضمن تكامل السياسات والخدمات ، وتوزيعًا متوازنًا للموارد ، ومرجعية واحدة للمساءلة والرقابة .

إن الصحة لا تتحقق إلا من خلال خدمات ذات جودة عالية ، تطبق المعايير العالمية في التشخيص والعلاج ، والوقاية والرعاية والتأهيل . وهذا يتطلب أن يتحلى جميع من له علاقة بصحة الناس من الطبيب إلى الممرض والفني والإداري بالكفاءة المهنية والتأهيل العالي والالتزام الأخلاقي ، وأن يخضعوا للتعليم والتدريب والتطوير المستمر ، وتبقى مسؤولية الدولة أساسية في الإشراف والرقابة وضمان العدالة ، إذ لا يمكن ترك حياة الناس رهينة المصالح الفردية أو السوق ، فكما قيل: “الدولة التي لا تضمن صحة مواطنيها، تُقصِّر في أبسط واجباتها تجاههم .

ورغم وضوح هذا الحق ، إلا أن للأسف تعترضه جملة من العوائق والمعتقدات الخاطئة التي تحوّل الصحة من حق إنساني إلى سلعة تجارية للتربح من خلال التسليع والخصخصة وتحويل المستشفيات والدواء إلى مجال للربح المادي يُقصي الفقراء ويُفاقم الفوارق ، ومن خلال التأمين الصحي الذي يربط العلاج بالقدرة الشرائية لا بالاحتياج الفعلي ، ورغم عيوبه وعواره وفساده ولا يناسب شعب صغير في دولة ريعية غنية الا أن المصالح تتناطح وتسعى بقوة لتنفيذه . وسوء التعليم الطبي والتدريب السريري وحال الطبيات ومخرجات معاهد وكليات التمريض والتقنية المحرومين من مراكز المحاكاة الحديثة والمناهج المتطورة ومن المستشفيات الجامعية والتعليمية وغياب الاحتكاك الخارجي بالمراكز العالمية ، لذلك ما يفرز كفاءات ضعيفة ويعرّض المرضى للمخاطر .

والبديهي أن الجمع بين العام والخاص هو ازدواجية العمل التي تجعل المريض رهينة لمقدمي خدمات يفضّلون الربح على الواجب المهني ، والفساد وتضارب المصالح أدى إلى تفتيت القطاع الصحي ، وتوريد أدوية مغشوشة ومعدات غير مطابقة ، وإلى تعيينات غير مهنية ، وإدارات غير صحية وكلها تضرب الصحة “في مقتل” وتُفقدها رسالتها الإنسانية ، والفساد في الصحة لا يسرق المال فقط ، بل يسرق الأرواح والآمال ..

إن بناء منظومة صحية عادلة لا يقتصر على توفير المستشفيات والأدوية ، بل يتطلب إرادة سياسية ، ومجتمعًا مدركًا أن الصحة ليست ترفًا بل شرطًا للحرية والتنمية . فكما يقول نيلسون مانديلا: “الصحة الجيدة ليست حقًا فرديًا فحسب ، بل هي استثمار في مستقبل الأمة .

إن الصحة حق مقدس وأصيل ، والاعتداء عليه من خلال التسليع أو الإهمال أو الفساد هو اعتداء على الحياة نفسها ، وإن حماية هذا الحق مسؤولية جماعية تقع على عاتق الدولة والمجتمع والمهنيين على حد سواء ، وإن الطريق إلى مجتمع سعيد ومنتج يبدأ من الإعتراف بأن الصحة ليست سلعة ، بل هي جوهر الإنسانية ، وإن الصحة كرامة لا تشترى وهي استثمار المجتمع في مستقبله ونهضته والتنمية المستدامة ..

د.علي المبروك أبوقرين

شاهد أيضاً

د.علي المبروك أبوقرين

الصحة من التجزئة إلى التكامل

الحق في الصحة ليس منة بل هو معيار وجود الدولة الراشدة والعادلة ، والتي تجعل …