في مجتمعات تُنفق على الموت أكثر مما تُنفق على الحياة ، يصبح المرض امتحاناً للكرامة قبل أن يكون امتحاناً للجسد ، هناك فقر لا يُقاس بالمال فقط ، بل يُقاس بالعجز عن العلاج ، وبالإهانة عند أبواب المستشفيات ، وبالخوف من فاتورة دواء ، وبالقلق من مرض لا يُغطيه التأمين الوهمي الطفيلي ، أو لا تعترف به الإجراءات ،
ذلك هو الفقر الصحي ، أفظع أشكال الحرمان ، لأنه يسرق من الإنسان معناه قبل أن يسرق عمره ، إن الصحة في جوهرها حق لا يُمنح ، بل يُصان ، ولكن حين تصبح الخدمات الصحية امتيازاً لمن يملك المال والنفوذ ، تتحول العدالة الصحية إلى شعار مفرغ من المضمون ،
وفي دول ريعية كليبيا ، الثروة النفطية قائمة ، والقوانين تنص على المساواة ، والنصوص الدستورية تُباهي بأن العلاج حق لكل مواطن ، لكن الواقع يقول غير ذلك فقط من يملك المال يستطيع أن يتداوى ، ومن يملك النفوذ تُفتح له الأبواب ، ومن يملك العلاقات تُجهز له السبل ، أما من لا يملك إلا الألم ، فيبقى خلف الطوابير ، بين المستشفيات المتهالكة ، والأدوية الناقصة أو المغشوشة ، والأطباء المنهكين ، والقرارات المتأخرة ، هنا تتجلى أبشع صور الظلم الصحي حين تُهدر كرامة الإنسان في لحظة ضعفه ، ويُحرم من حقه في العلاج لأن جيبه فارغ أو صوته خافت ،
وحين يفقد الإنسان حقه في الصحة ، يدخل في دائرة جهنمية من الفقر والجهل والمرض ، والمرض يعطل العمل ، والفقر يمنع العلاج ، والجهل ، والخوف ينهش النفس ، والقلق يصبح رفيقاً دائماً ، ويتحول الجسد إلى عبء ، والكرامة إلى ذكرى ، وتُولد الوصمة في العيون ( فقير وعاجز وغير قادر على العلاج ) ، ويولد معها الاحتقار الاجتماعي والتنمر والخذلان ، وتلك ليست مجرد أعراض صحية ، بل كسور في الروح ، لا يرممها الدواء ، بل العدالة ،
وفي قلب هذا الواقع المر ، تزدهر صناعة المرض ، والدواء يصبح سلعة ، والمستشفى مشروع استثماري ، والتعليم الطبي تجارة ، والتأمين سوق مفتوحة للمضاربات ، ويتكاثر الوسطاء ، وتتعمق الفجوات ، ويصبح العلاج رفاهية تُشترى بالدولار ، لا حقاً يُصان بالكرامة ، ويُدفع الفقير نحو العجز ، لا لأنه لا يريد العلاج ، بل لأن النظام الصحي وجد ليخدم من يملك لا من يحتاج ، وحين تُسعر العافية وتُباع الحياة بالأقساط ، يفقد الإنسان أعز ما يملك كرامته ، أن يقف المريض على باب مستشفى ينتظر واسطة أو توقيعاً من مسؤول ، أو أن يتوسل دواءه ، فذلك جرح للإنسانية قبل أن يكون جرحاً للسياسة ، أن يشعر العاجز بالإهانة لأنه لا يستطيع شراء علاج ، أو بالسخرية لأنه فقير ، أو بالهوان لأنه لا يملك حق الحياة ، فذلك سقوط أخلاقي لا تُبرره أي موازنة ، والصحة لا تُشترى ، والكرامة لا تُباع ، والعلاج ليس هبة من الدولة ، بل واجبها المقدس ،
العدالة الصحية ليست ترفاً أو شعاراً ، بل بوصلة حضارية ، بها يُقاس مستوى الرقي والضمير ، والدولة العادلة هي التي لا تُفرق بين الغني والفقير ، وبين العاصمة والقرية ، وبين المركز والأطراف ، وهي التي تضع المستشفى قبل السوق ، والطبيب قبل التاجر ، والدواء قبل النفط ، هي التي تجعل من النفقة العامة على العلاج استثماراً في الكرامة لا عبئاً على الميزانية ،
وحين تُكرس الدولة مبدأ أن العلاج مكرمة ، فإنها تُفرغ الحقوق من معناها ، إن العلاج ليس منة ولا صدقة ، بل عقد اجتماعي بين الدولة والمواطن ، وكل دينار من النفط يجب أن يُترجم إلى سرير نظيف ، وطبيب مؤهل ، ودواء موثوق متاح ، ومستشفى لائق بكل إنسان ، لا إلى امتيازات للطبقة القادرة أو المسنودة ، ذلك هو جوهر الوطنية أن توزع الصحة والعافية بعدل كما يوزع الخبز والماء كما يجب أن تكون الحياة لأن حتى الخبز والماء صاروا كالعلاج والدواء ،
إن المعركة ليست بين الصحة والمرض فقط ، بل بين الكرامة والمهانة ، وبين الحق والاستغلال ، إن الفقر الصحي ليس قدراً ، بل صنيعة ظلم وتقصير وسوء إدارة ، وإن العدالة الصحية ليست حلما ، بل قرار سياسي وأخلاقي إذا ما وجد الضمير ، وحين تُشفى الدولة من أمراضها الإدارية والأخلاقية ، يُشفى المواطن من فقره الصحي . فالعلاج ليس دواءً فحسب ، بل عدالة تمنح الإنسان حقه في أن يعيش بكرامة ، لا أن يموت صامتا في طوابير الإهمال ..
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية