حاوره/ عبدالله موني
توطــئــــة:
نرحب بك شاعرنا الكبير في هذه الفسحة الحوارية التي نتمنى أن تسافر بنا عبرها إلى عالمك المليء بروعة الحياة وجمال الروح وعوالم الإبداع، والألم والغربة، عالم الشعر والثقافة والأدب.
بداية عرفنا على جميل حمادة؛ المولد والنشأة والانتماء.
** أنا رجل فقير، أو قريبا مما يقول صديقنا الشاعر الراحل النبيل محمد عفيفي مطر، أنا العبد الفقير الذي لا يضر ولا ينفع، نحن شيء من هذا كثيرا. ولدت في مخيم للاجئين الفلسطينيين في غزة وقد ذهب والدي متطوعا للدفاع عن مصر العربية في مواجهة العدوان الثلاثي. وفتى يافعا صحوت على طائرات المستير الصهيونية، فرنسية الصنع في عام النكسة وهي تقصف كل مكان في المخيم، المستشفيات والبيوت والمزارع، وتقتل الأطفال والنساء والشيوخ.. إذن بإمكانك أن تقول بكل يسر أنني ابن الكارثة.. كما هو حال الشاعر دائما. فالشاعر ابن المأساة، ابن المحرقة.. وصديق الفاجعة. أما الانتماء فإنا عربي حتى النخاع، ومهما حصل، ومهما جرى من مصائب وكوارث لهذه الأمة بسبب حكامها، والنافذين فيها، فسأظل عربيا، لأن خير خلق الله هو محمد النبي العربي، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
-لأن لكل شاعر نقطة بدأ منها، نقطة لا تنسيه إياها متغيرات الحياة، فهل لك أن تعود بنا معك إلى تلك اللحظة.
** كنت طالبا متفوقا على الدوام، وكان ترتيبي دائما الأول أو الثاني أو الثالث، وأحيانا كان ترتيبي الأول على المدرسة في بعض المواد الأدبية، ومنذ ذلك الوقت لم أقرر أن أكون طبيبا أو مهندسا، بل قررت أن أكون شاعرا فارسا، لذلك دخلت القسم الأدبي، وقد كتبت الشعر في وقت مبكر وأنا في المرحلة الابتدائية. كنت أحب عنترة العبسي، وامرؤ القيس والمتنبي، وأبا تمام، وزهير ابن أبي سلمى، وجميل بثينة، وكثير عزة، والنابغة الذبياني، سحرني هؤلاء الشعراء وغيرهم.. كان مدرس اللغة العربية في مدرسة فلسطين الثانوية يقول لي قم يا جميل اشرح القصيدة، كنت أقرأ القصيدة غيبا وأشرحها بيتا بيتا..بالأصالة عن المدرس، وكان مدرس اللغة العربية في المرحلة الابتدائية والإعدادية يعطيني دفاتر الإملاء لأصححها في بيتي نيابة عنه، وأعيدها له في الصباح، فيأخذها وهو في غاية الاطمئنان، ودون أن يراجعها. كانت تلك البداية، أنني ولدت لأكون شاعرا. ولأنني درست التجارة واللغة الإنجليزية في القدس، وقد كان ترتيبي الأول دائما أيضا في مادة الاختزال على القسم كله، وأصبحت الترجمة والإدارة مهنتي، إلا أن كل ذلك، وحتى عملي في الأمم المتحدة على مدى عشرين عاما لم يفلح في إقصائي عن الشعر.
الشاعر أكبر من القبيلة ومن الحزب ومن الطائفة. الشاعر لسان الأمة.
قيل إن الشعر موهبة، وقال بعضهم اكتساب وتعلم، كما قالوا إنه ملكة تتطور وتنمو بالاكتساب والتجارب والثقافة، فماذا يقول جميل حمادة عن كتابة الشعر؟
** نعم أخي العزيز؛ الشعر بداية هو موهبة، فإذا ثبت التأكد من وجود هذه الهبة الإلهية توجب على الشاعر أن يهتم بموهبته ويصقلها، بالقراءة والثقافة والمعرفة والتجارب، فالشعر حمال ثقافة ومعرفة وفلسفة. دعنا ألا ننسى أن الشعر هو ديوان العرب، وتاريخ أنسابهم وحروبهم وأمجادهم.. إلخ، ومازال، والشاعر الذي يفتقر إلى الموهبة لن يكون شاعرا مهما امتلك من الثقافة والمعرفة.
مواضيع قصائدك؛ هل تفرض نفسها عليك؟ أم أنت الذي تبحث عنها؟
** أنا شاعر عربي فلسطيني، ولذا فإن القضية الأساسية في شعري هي مأساة فلسطين، والأمة العربية، أنا أزعم بأنني شاعر مهجوس بمصير وطني وشعبي وأمتي، وأعتبرها قضية مقدسة بكل معنى الكلمة، لذا فتجد أن جل شعري صادر بهذا الاتجاه، ولكنني إنسان أيضا، أعيش هموم البشر وأعاني كالآخرين من الجوع والغربة والحب والحرب، ولكني أحب البحر والصحراء ربما وبنفس القدر، فقد كان والدي بحارا رائعا، وكان مثقفا يتحدث ثلاث لغات، في وقت كان فيه اتقان لغة واحدة مسألة ذات مغزى. لذلك يا صديقي أقول لك إن الشاعر الحقيقي، لا يبحث عن الموضوعات، لأنها ستأتيه وحدها، لأنها ملقاة على قارعة المدن..!
ثمة اختلاف بين الشعراء والأدباء في نظرتهم إلى رسالة الشعر والأدب عموما، فمنهم من يظن أنها تهم الشاعر والأديب نفسه، أو تعنيه هو بالدرجة الأولى، ومنهم من يدعي أنها رسالة جمالية يقوم الشاعر بتبليغها نيابة عن الناس, نريد أن نعرف رؤيتكم إلى رسالة الشعر والأدب عموما، كيف ترونها..؟
** دعنا نقر بداية بأن الشاعر ليس مصلحا اجتماعيا، وبالتالي فإنه ليس من مهمة الشعر أن يكون مصلحا، ولكن الشعر معلم ثقافي تاريخي، يطلعك على تجارب الأجداد، ويدمجك في العالم، وهو أيضا رسالة جمالية، تجعلك أكثر قدرة على تحمل قسوة الحياة. الشعر فيتامين السعادة، إلى حد كبير، ولكن الأدب بشكل عام، هو مرآة الواقع، يعكسه ويمنح المطالع فكرة ما عن مجتمع بعينه. والأهم من كل ذلك أن الشعر رسول الأجيال، لأن ما يقوله الشاعر الحقيقي تحفظه الأجيال وتردده عبر العصور، ويخلده التاريخ، ولذلك يقال إن الشاعر أبقى من الحزب، ومن الجماعة والقبيلة التي ينتمي إليها، فانظر عبر التاريخ مثلا، تجد أن عنترة بن شداد أشهر من قبيلة بني عبس، وكذلك امرؤ القيس، وأبو فراس الحمداني، والمتنبي وغيرهم. وفي العالم آلاف الأمثلة. الشاعر مواطن كوني، لا ينتمي فقط إلى وطنه أو قومه أو لغته ومدينته، بل ينتمي للعالم أجمع، لأنه منحاز إلى الإنسان كمطلق، وإلى القضايا الإنسانية الكبرى، مثل غابريل لوركا، محمود درويش، أكتافيو باث، ريتسوس، سميح القاسم، علي صدقي عبدالقادر، بدر شاكر السياب، عبدالرحمن الأبنودي، نازك الملائكة، علي الفزاني، شوقي بغدادي، محمد الغزي، سليمان العيسى، فهو يقول ما يواجهه الإنسان ويعانيه عبر مراحل التاريخ. إذن الشاعر ملك للبشرية جمعاء، فقد غنى طاغور للفقراء، وبكى غارسيا لوركا الموريات في الأندلس، وصاحت الكمنجات لدى محمود درويش عند العرب
النخبة العالمية أظهرت فشلا مدهشا.. تجاه الظلم السائد في العالم.
في القصيدة، لكي تكتب ذاتها، من منظور رؤيوي شمولي، وأن هذه القصيدة تصير إلى خلق الكيان الشعري للشاعر من جديد، وفقا لتجاربه ومعارفه وفلسفته وثقافته.
أما بالنسبة للشعر الحر، فقد قيل إن أشهر قصيدة في الشعر الحر، كانت هي قصيدة “الكوليرا” لنازك الملائكة التي كتبتها عام 1949، التي تقول في مطلعها:
(سكن الليل
أصغ إلى وقع الأنات
في عمق الظلمة تحت الصمت على الأموات
صرخات تعلو تضطرب
حزن يتدفق يلتهب..
يتعثر فيه صدى الآهات..) إلخ.
لكل شاعر نصه الخاص به، وبصمته الشعرية الخاصة.. هل تعتقد أن النصوص الشعرية المعاصرة قد أصبحت نصا شعريا واحدا بسبب التناص بينها..؟
** هذا القول صحيح تماما، حيث انتشر هذا التعبير في ثمانينات القرن الماضي، عندما أصبحت تشعر أن جل الشعراء يكتبون قصيدة واحدة، في موضوعها ومفرداتها وصورها وصياغتها، إلا ما ندر، ومع ذلك ظل لدى العديد من الشعراء بصمتهم الخاصة، ومصطلحهم الخاص، حتى أنك بمجرد أن تقرأ نصا لأحدهم، بدون ذكر اسمه، سوف تعرف أن هذه القصيدة للشاعر الفلاني.. كذا. ومع ذلك كان الشعراء الصغار يقلدونهم ويسرقون منهم عن قصد أو غير قصد.
ختاما؛ ما الذي يمكن أن تود قوله لكتاب ومثقفي العالم من كلمات أو نصائح أو وصايا.. مثلا.. كي يتوقف القتل والحرب والدمار..!؟
** أقول لهم، اقرأوا ثم اقرأوا وتثقفوا، فإن سلاح الشاعر ثقافته وتجربته، وأوصيهم بالابتعاد عن الشللية، والطائفية والحزبية والقبائلية، فالشاعر ليس ملك أي من هؤلاء إنه يتحدث باسم الشعب وباسم الأمة، الشاعر هو الذي يحفظ تاريخ مجد للأمة، وهو لسان الأمة، ولذا عليه أن لا يحنط اسمه تبعا لقبيلة ما أو حزب ما أو طائفة ما.. الشاعر أكبر من ذلك مهما تغيرت الأزمان، وتغيرت المسميات.
نشكر شاعرنا الكريم على وقته الثمين الذي اقتصه لنا كي نجري معه هذا الحوار القيم، متمنين له دوام الصحة والعافية.