عبدالسلام الغرياني
إذا تصفحنا كتابًا من القرن الثامن عشر، سنلاحظ أن الجمل الطويلة المُحملة بالجُمل المعترضة والاستطرادات كانت سمةً مميزة للأدب والفلسفة.
ففي عصرٍ لم تكن فيه السرعة قيمةً مُطلقة، كانت الجملة الطويلة تعكس عمق التفكير، وقدرة الكاتب على نسج الأفكار بتأنٍّ.
لكن الثورة الصناعية، ثم الرقمية، قلبت المعادلة: فالإيقاع السريع للحياة، والفيض الهائل للمعلومات، جعلا الإيجاز ليس خيارًا، بل ضرورةً للبقاء.
تشير دراسات في تاريخ اللغة إلى أن متوسط طول الجملة في الإنجليزية انخفض من 40-50 كلمة في القرن الثامن عشر إلى 10-20 كلمة اليوم.
وفي العربية، تراجعت ظاهرة “الاستئناف” النحوي لصالح الجمل القصيرة المباشرة، حتى في الكتابات الرسمية.
يكشف علم الأعصاب أن عقولنا تتكيف مع طبيعة المحتوى الذي تستهلكه.
ففي دراسة نُشرت بمجلة “Nature” عام 2022، تبيّن أن القراءة على الشاشات تُحفز مناطق مختلفة في الدماغ مقارنةً بالورق، حيث نميل إلى المسح السريع بدلًا من التركيز العميق.
هنا تبرز فائدة الجمل القصيرة: فهي توفر “نقاط توقف” طبيعية تسمح للقارئ بامتصاص المعلومات دون إرهاق.
بل إن بعض التطبيقات مثل تيكتوك أو انستغرام حوّلت الجمل إلى مقاطع صوتية مصورة، حيث تُقدَّم الفكرة في ثوانٍ، مدعومة بموسيقى ومؤثرات بصرية.
هذه التحولات تدفع الكُتّاب إلى تبني لغةٍ تشبه “النبضات الكهربائية”: سريعة، لامعة، ومُكثفة.
لا يمكن فصل تقصير الجمل عن قيود المنصات الرقمية:
اكس(تويتر): حدّ الأحرف (208 حرفًا) حوّل التغريدات إلى حِكمٍ مكثفة أو تعليقات ساخنة.
تيكتوك : يُقاس نجاح الفيديو بعدد الثواني التي يحتفظ فيها المشاهد قبل التمرير.
البريد الإلكتروني: تشير بيانات “Grammarly” إلى أن الرسائل الأقصر تحصل على ردود أسرع بنسبة 40٪.
حتى الروايات الحديثة لم تسلم: فكتب مثل ” لا أحد يتحدث عن هذا” لـ باتريشيا لوكوود كُتبت بلغةٍ تشبه التغريدات، تعكس تأثيرات العصر الرقمي على الأدب.
رغم انتقادت البعض للاختصار المفرط، يرى كُتّاب مثل جوناثان فرانزن أن التحدي الحقيقي هو كتابة جملٍ قصيرة تحمل عمقًا.
فالشاعر الأمريكي إزرا باوند مثلاً، حوّل الإيجاز إلى فلسفة في قصيدته الشهيرة “في محطة المترو” :
“تَجَمُّهُرُ الوُجُوهِ في الحشدِ:
بتلاتٌ عَلَى غُصْنٍ أسوَدَ مُبَللٍ بِالمَطَر.”
في العالم العربي، نجد ظاهرة مماثلة في كتابات الروائي الجزائري , واسيني الاعرج الذي يستخدم جُملاً قصيرةً مُتقطعة في أعمال مثل “كتاب الأمير” لخلق إيقاعٍ سردي يشبه نبض القلب، خاصةً عند وصفه للمآسي الإنسانية في الحرب الأهلية الجزائرية.
يحذر الكاتب نيكولاس كار في كتابه “The Shallows” من أن الاعتماد على الجمل القصيرة يُضعف قدرة الدماغ على التفكير النقدي أو استيعاب الأفكار المُعقدة.
ففي اليابان، حيث تُعد قصيدة الهايكو (17 مقطعًا صوتيًا) رمزًا ثقافيًا، تُدرس الجمل الطويلة في المدارس لتحفيز الخيال.
الأمر نفسه ينطبق على العلوم: فالأبحاث الأكاديمية لا تزال تستخدم جملًا طويلة لتوضيح الفرضيات المعقدة. لكن حتى هنا، تظهر اتجاهات جديدة: فمنصات مثل ResearchGate تشجع العلماء على كتابة ملخصات مبسطة لا تتجاوز 280 حرفًا لجذب قراء أوسع.
أدوات مثل شات جي بي تي و كويل بوت، تُعيد صياغة النصوص الطويلة إلى جملٍ قصيرة تتناسب مع محركات البحث. لكن هذه التقنيات تطرح أسئلةً إشكالية:
– هل ستُهمل الأجيال القادمة فنون البلاغة؟
– هل ستتحول اللغة إلى رموزٍ مُفرغة من السياق؟
في المقابل، يرى البعض أن الذكاء الاصطناعي قد يُنقذ “الجملة الطويلة” عبر إتاحة الوقت للكتّاب للتركيز على الإبداع بدلًا من الاختصار الإجباري.
الجملة القصيرة في عيون الآخرين: منظور عالمي
– اليابان: رغم حبهم للإيجاز، تزدهر أشكال أدبية طويلة مثل الرواية المرسومة .(Manga)
– ألمانيا: تشتهر بجملها المركبة، لكن شبابها اليوم يتبنون لغةً أكثر مباشرةً بتأثير الإنجليزية.
– اللغة العربية: تشهد صراعًا بين مدرستين: واحدة تُدافع عن فصاحة الجمل الطويلة في الإعلام الرسمي، وأخرى تتبنى لغة “الشبكات” في الإعلام الرقمي.
مستقبل الجملة: هل سنعيش في عالم “التغريدات الأبدية”؟
التوقعات متضاربة:
– تشاؤمية: ستتحول اللغة إلى شظايا مُبتورة، تُدار بواسطة خوارزميات.
– تفاؤلية: ستتطور إلى أشكال هجينة، تجمع بين إيقاع العصر وعمق التراث.
بينما تتباين آراء الخبراء حول مستقبل الجملة، يبدو أن الإيجاز قد فرض نفسه كلغةٍ مهيمنة في عصر السرعة الرقمية.
وكما يصف الكاتب التركي أورهان باموق تطوُّر اللغة: «إنها كالنهر الجاري؛ تتشكل مساراتها مع كل منعطف، لكنها تحمل في أعماقها بصمات كل العصور التي مرت بها».