منصة الصباح

الترتيب الأمثل

عمر ابو القاسم الككلي

اعتراه استغراب بالغ. فرغم أنها توقفت، لوهلة، عند باب المقهى، ماسحة القاعة بنظرة سريعة خاطفة، إلا أنها لم تبدِ أية ردة فعل تفصح، أو تنم، عن أنها شاهدته. وحتى عندما مرت بقربه، متجهة إلى المنضدة التي تخيرتها، لم  توله أي انتباه. المنضدة على مبعدة بضعة أمتار منه. جلست على كرسي بوضع يتيح لها مراقبته. استرق إليها النظر. لم يظهر أنها تراقبه.

قد تكون امرأة أخرى مثيلة لها. لكن من غير المعقول تكون أن المثيلة بنفس العمر، وترتدي نفس الملابس التي يعرفها ونفس الحذاء، وتتدلى من كتفها حقيبة نسائية مألوفة لديه وبنفس اللون والعلامة التجارية. من غير المعقول أن تكون لها نفس تسريحة الشعر، وتسير بنفس المشية المتكابرة التي تحرص على تعمدها في الأماكن العامة. ومن يدري، فلربما لو اقترب منها بشكل كاف لشم منها نفس العطر.

وجود المتماثلين ليس أمرا مستحيلا. لكنه استثنائي. وقد يكون تماثل الأمور الأخرى مجرد مصادفة غريبة. فالمصادفات الغريبة المباغتة تحدث في الواقع. الملابس والحقائب والأحذية المتماثلة موجودة في الأسواق. وتسريحة الشعر شائعة. يجوز أن يكون الأمر كله محض مصادفة.

وحتى عندما طلبت مشروبا، طلبت كابتشينو. هي تحب الكابيتشينو. هو أيضا يحبه. لذا كانا عندما يذهبان إلى المقاهي معا، يحرصان، خصوصا في الشتاء، على طلبه.

ليس معقولا أن تكون هي نفسها. فمهما كانت رباطة جأشها لا يمكن ألا تظهر عليها أدنى ردة فعل إزاء وجوده. إلا إذا كانت تعلم بوجوده هنا مسبقا ووطنت نفسها على إرباكه.

إلا أن كل هذا لم يجعله يقتنع بأنها ليست هي.

استعجل الخروج من المقهى، وعند المدخل استرق إليها النظر. لم تكن مهتمة به.

في الساحة الصغيرة التي أمام المقهى بحث عن سيارتها. لم يجدها. لعلها ركنتها في مكان آخر.

قاد سيارته بسرة عالية لم يعتدها متجها إلى البيت.

أمام البيت، كانت سيارتها في نفس المكان الذي توقفها فيه عادة. إذا كانت هي نفسها، فلا يمكن أن تخرج بعده وتصل قبله. حتى لو قادت سيارتها، وهذا أمر ضعيف الاحتمال، بسرعة أشد من سرعته. المسافة من المقهى إلى البيت لا تسمح بتغطية فارق الزمن بينهما. ولا توجد طرق مختصرة.

عندما دخل كانت بملابس البيت تُقرَع ابنهما الصغير. أسرع الطفل نحوه لائذا به.

– ماذا فعل.

– لم تعجبه الملابس التي أردته أن يلبسها. يريد أن يلبس على هواه.

– وما المشكلة في ذلك! دعيه يلبس على هواه.

– لا يظهر بها أنيقا.

– دعيه على هواه. يتعلم الأناقة وهو يكبر.

كانت تعد وجبة العشاء.

رغم أنه رجح، إلى درجة تلامس التأكيد، أنها ليست هي نفسها التي شاهدها في المقهى، إلا أنه ظل محتارا مهموما واجما.

المرة التالية تكرر نفس الشيء، هي نفسها في كل شيء، وبنفس التجاهل الذي أبدته إزاءه المرة السابقة. خرج كما في المرة الماضية. لم تكن سيارتها في الساحة. قاد سيارته بسرعة فائقة تسمح بها الطريق وحركة المرور. سيارتها أمام البيت. هي في البيت. نفس تعاملها وسلوكها..

لم يشأ أن يسأل أحد أطفاله عما إذا كانت أمه قد خرجت أم لا. لا يريد أن يتشربوا سلوك الوشاية.

تكرر الأمر على نفس الوتيرة عدة مرات. قرر أن يغير المقهى.

في المقهى الجديدة وقع نفس الشيء. عدة مرات.

ونفس الشيء وقع في مقهى أخرى.

بلغ الأمر درجة الكابوس. كابوس واقعي وليس حلما. انتبه إلى نقطة بالغة الأهمية فاته الانتباه إليها سابقا: دائما كانت تدخل بعده، ليس بأكثر من نصف ساعة من جلوسه. لم يحدث أبدا أن وجدها جالسة قبله. استنتج أن الأمر مدبر. إذ لو لم يكن الأمر كذلك فلماذا تتبعه هذه المثيلة. الأغرب من ذلك كيف تعلم بمكانه. وكأن ثمة قمرا صناعيا مختصا بمراقبته يزودها بالمعلومات. أو أنها تمتلك قدرة نفسية على معرفة أماكن الأشخاص الذين تركز عليهم تفكيرها.

انتبه أيضا إل أنه لم يلتقها في مكان آخر. إذن الهدف لم يكن التتبع والمراقبة. وإنما مجرد الإرباك والبلبلة. لكن ما هدفها من ذلك. ماذا تجني من وضعه في دوامة هذا الكابوس.

هناك، إذن، مؤامرة ضده محاكة بعناية بين زوجته ومثيلتها. التقيا وتعارفا وأصبحتا صديقتين حميمتين وطلبت منها زوجته أن تطارده. تعيرها بعض ملابسها، أو تشتريان معا ملابس جديدة مماثلة لملابسها. من يتحمل التكاليف. دخلهما هو وزوجته محدود لا يسمح بالتوسع في المصروف. هل المثيلة ميسورة الحال وقادرة على تحمل التكاليف بنفسها. لكن ما فائدتها من التطوع لتنفيذ مخطط زوجته الهادف إلى دفعه إلى الجنون أو الانتحار. ولماذا تفعل زوجته ذلك. هل تسعى إلى الطلاق. ليست مضطرة إلى ذلك. فعندما طُرح موضوع الزواج قال لها، بكامل الصراحة، أنه يعتبر مشروع الزواج كأي مشروع آخر بين طرفين، إذا رغب أحد الطرفين، لسبب أو آخر، في الخروج من المشروع والانفصال، ينبغي ألا يحاول الطرف الآخر منعه وإعاقته. يجب أن يحدث ذلك بسلاسة. هي تعلم أنها لو طلبت منه الطلاق لاستجاب لطلبها بكل سهولة. إذن لماذا تتآمر عليه. لعلها فكرت في أنها لو طلبت الطلاق دون سبب فلن يكون من حقها الاحتفاظ بالبيت. لذا تحاول أن تدفعه إلى الجنون أو الانتحار ليتحقق لها ذلك. لكن ما فائدة المثيلة. ربما وجدت الأمر مسليا، أو أن زوجته وعدتها بمكافأة مجزية حين تتحقق النتائج المستهدفة، التي يبدو أنه لا شك في تحققها.

اقترح عليها مرة أن يخرجا معا هما والأطفال ويتعشوا في مطعم. طلب منها ارتداء البدلة التي شاهد المثيلة أمس ترديها. ونفس الحذاء والحقيبة.

– طيلة سنوات زواجنا لم يحدث أن طلبت مني مثل هذا الطلب. ما الذي جد؟!.

– فقط لي مدة لم أرك تلبسينها. تذكرتها فاقترحتها عليك. تعجبني. تبدين فيها أكثر أناقة.

غابت فترة، ثم خرجت بنفس البدلة والحذاء والحقيبة.

أصبح على ثقة الآن من وجود مؤامرة متقنة. هي ومثيلتها لم تتركا شيئا للصدفة. كأنها مؤامرة مدبرة من قبل جهاز أمني مختص بالإرباك وإثارة الحيرة لدى ضحاياه.

قرر أن يترك كل شيء ويختفي. ينتقل إلى مدينة أخرى. إما هذا وإما الجنون أو الانتحار. أن يقال لأبنائه أن أباهم تخلى عنهم أفضل من أن يقال لهم أنه في مصحة للأمراض العقلية أو انتحر.

طلب من جهة العمل نقله إلى فرع لها في مدينة أخرى. استجيب الطلب. ظل يتهرب من أسئلة زملائه. هل بعت بيتك وستشتري بيتا في المدينة الأخرى. هل ستأجر بيتك هنا وتستأجر هناك. هل قمت بإجراءات نقل أطفالك إلى مدارس هناك. اكتفى بالقول إجابة على أسئلتهم أنه رتب الأمور الترتيب الأمثل.

اليوم الذي قرر فيه الانتقال خرج كما يخرج كل صباح. فكي لا يثير ريبة زوجته لم يحمل معه سوى الحقيبة التي يحملها معه إلى العمل دائما. أضاف غلى محتوياتها فقط أوراقه الثبوتية وبعض المستندات الأخرى والمبلغ البسيط الذي توفر له في المصرف.

*

بعد أن رتب وضعه في المدينة الجديدة، تخير مقهى للجلوس فيه.

بعد فترة من جلوسه داهمته حالة رعب. شاهدها تدخل بهيئتها ومشيتها المعتادتين. تجلس إلى منضدة على مبعدة بضعة أمتار منه على نحو يتيح لها مراقبته.

استبد به التوتر. وجد نفسه ينهض ويتجه إليها، وكأن قوة ما تدفعه، أو تجذبه، إليها. لعلها دخلت مرحلة أخرى وسلطت عليه إحدى قواها الخارقة. اقترب منها ووقف أمامها. لاحظ أنها فوجئت بتصرفه. بادرها دون إبطاء

– لماذا تطاردينني؟!

– عفوا؟!.

– قلت لماذا تطاردينني كل هذه المدة؟!.

– لعلك خلطت بيني وبين امرأة أخرى. أنا لا أعرفك حتى أطاردك.

– أنت تطاردينني من مقهى إلى مقهى ومن مدينة إلى مدينة. لماذا تفعلين ذلك ولصالح من؟!.

– اسمع يا أستاذ. أنا مولودة في هذه المدينة وأقيم بها طوال عمري. لم أغادرها إلا لفترات قصيرة جدا. يبدو أنك تمر بأزمة نفسية حادة تجعلك تتوهم.

– لا تخادعيني. انت تطاردينني.

– اسمع يا أستاذ. رغم كل شيء تبدو شخصا محترما. يكفي أنك رغم انفعالك الشديد الواضح لم تستعمل ضدي ألفاظا مسيئة. لذا لا أريد أن أصعد الموقف وأثير مشكلة بحيث تأتي الشرطة. لا أريد أن أراك تهان. الأفضل لكلينا أن تعود إلى رشدك وتنسحب وتتركني في حالي.

لم يجد بدا من الانسحاب. خرج مسرعا.

*

في البيت أخذ حماما باردا. جهز شايا. جلس إلى منضدة الردهة. أخذ يشرب الشاي دون متعة ويدخن. مفرش المنضدة كان مزدانا بأشجار وأعشاب وأزهار وغزلان تمرح وعصافير تحوم. وتتناثر عليه بضعة كتب ومجلات وصحف. وأيضا عليه علبة حبوب ارتفاع ضغط الدم وعلب بعض المسكنات. سَهِم قليلا. ثم وجد نفسه يتخذ قرارا يخلصه من هذا الكابوس.

شاهد أيضاً

التومي على مذكرة تعاون مع وزارة اللامركزية الجيبوتي

الصباح وقع وزير الحكم المحلي بدر الدين التومي ، و وزير اللامركزية الجيبوتي قاسم هارون …