بقلم /محمد الهادي الجزيري
صار الإنسان يرى ما لا يرى.. الكرة الأرضية تحولت إلى كرة في يديه.. يلهو بها.. يقذفها..يديرها من كل جانب.. يكشفها.. يقضمها أحيانا..صار اليوم ملكا على كل شيء.. ما كان يظنه مستحيلا.. أصبح واقعا بديهيا… ففي لحظات بسيطة يمكنه أن يرى من خلال جواله شتى الصور والمشاهد.. بتحريك إصبع واحد.. وهو مستلقي في فراش النوم… يمكننا الاعتراف بأن هذا الدماغ الذي أوصلنا إلى هذا العالم المربك.. وصل إلى هلآكه.. لقد سيطر على كل شيء.. وقريبا يسيطر عليه العالم.. قلت الدماغ.. ولم أكن أقصد إلا الإنسان.. فهو كتلة صغيرة في تجويف الجمجمة.. قادت البشرية إلى انقراضها ولو إلى حين ..ستثبت الأيام صحّة قولي ورجاحة تفكيري .. هذا ما أراه وأعتقده….
لم يعد ممكنا أن يسيطر على الآخر.. على تدجينه وفق تعاليم دينية وأوهام موروثة أو فلسفات شرقية أو غربية..لم يعد ممكنا أن يحدد للآخر وجهته أو طموحه.. فقد صار الطموح دين الإنسانية.. وأضحت رغبتها في الحرية فوق كل سلطة.. وبهذه الحرية المنطلقة الجامحة….غير المسؤولة.. سنشهد قريبا جدا نهاية العالم..
أصبح العالم ملعبا مفتوحا.. لكل ذي قدمين ويدين وجذع ورأس.. ومسكين من كان مثلي.. يتابع اللقطات الأخيرة للمسرحية الإنسانية.. الغارقة في الوحل…
سنشاهد معا ما يطفو على سطح الواقع.. من نماذج تنتقيها الصدفة.. لتفهموا ما أريد قوله وتوضيحه لكم.. ولنبدأ ببعض الصور.. تصادفنا في آخر هذا الليل.. في شاشة جوالي…
مثلا.. جلسة محكمة والقاضي يدلي بحكم الإعدام على فتى قاتل.. وينتهي المشهد بتهاني لأب القتيلة.. وصياح أقارب المحكوم عليه بالإعدام.. وثمة رجل يحمد الله بصوت عال على انصاف الحكم له.. فقد برأه.. (وأنت تعاين كل هذا.. من بيتك.. من مكانك.. من غرفة الجلوس مثلا.. وقد تبدي بعض الأسف على من قتلت ومن سيعدم..) ثم فجأة بعد المشهد الأول ننتقل إلى مشهد مغاير تماما…
صورة باخرة صيد.. وعليها أطنان من السمك.. أما ما يفتكّ العين ويشدها.. فسمكة عظيمة مرفوعة بحبال قوية.. والبحارة يحاولون ويجاهدون لإرجاعها إلى البحر (وأنت بين شهية الأكل.. وادعاء الإنسانية النبيلة.. تراقب السمك المنثور والسمكة التي غاصت في البحر.. وتكتم في صدرك آهات مكتومة)
ماذا أفعل؟ صور كثيرة وبلا عدد ..، تجتاحني بقوة وتقتحم عليّ وحدتي ..منها ..مثلا:
مجموعة صور لفتيات يرقصن على نغمات متنوعة ..فتيات خلف جدران بيوتهنّ ..يعرضن أجسادهن لملايين المتابعين ..صدفة مثلي ..أو عن قصد في هذا الليل البهيم …
مجموعة لاعبين يركضون في إثر كرة ..يتقاذفونها ويفعلون بها الأفاعيل ..وجمهور حماسيّ يشدّ في أزرهم ويشجّعهم ..كأنّ الدنيا قطعة من جلد ..لا أكثر أو أقلّ…
امرأة تتسوّل ما يسدّ الرمق ..وطفلها بين يديها ..
شاب يعرض كدمات تعرّض لها من مجموعة شبان ..أرادوا افتكاك جوّاله ..
صور ليس بينها رابط أو منطق أو سياق ما ..تجعل الإنسان أسير جهازه المتحرّك أو الثابت ..، والأدهى تفاعل البشر مع ما يُعرض عليهم …فمنذ أربعة أيام ..شاهدت مشهدا غاية في الغرابة ويبشّر بقرب النهاية المحتومة لجنس البشر..، هل تعلمون من يحتفل بالعام الجديد ..راقصا وصاخبا ومتحركا بكلّ انسيابية ..إنّه الرجل الآليّ يهنّئنا بنهاية عام ودخولنا إلى عام آخر ..، والإنسانية ليست هنا ..، بل هي منهمكة في إعداد جنازتها الباذخة ..
كلّ ما تبقى لأقوله ..أرجو أن ينهض العقلاء ليوقظوا العالم من سباته ..وآخر ما أختم به كقسم لي كشاعر ومثقف وشاهد على عصري:
” ما في الجبّة غير الطينِ
وما في القفّة غير الدَينِ
لكّني لن أسلمكم هذا الإنسانْ
لن أمحو وجه الفنانْ “