منصة الصباح

إسطوانة الغاز.. الأزمة والتحديات

نظراً لما يعانيه الوطن اليوم من أزمة سياسية رأيت التوقف أو التخفيف من الكتابة حول مسائل وقضايا قد تكون في آخر سلم الاولويات.

أحيانا تجد نفسك في حيرة بسبب ما قد تشاهده من أزمات كبيرة تشعر بها حقيقياً وتتغافل عنها, ومن هذه القضايا قضية «إسطوانة الغاز» ربما لو كانت القضية قضية توفير الكهرباء لتكييف الجو بمعنى تبريد الجو أو تجميد الآيس كريم أو حتى متابعة مسلسلات (أم بي سي) كان يمكن للشخص أن يتغافل عنها, ولكن اختفاء أسطوانة الغاز من أمام طفل صقعان أو أم تحضر الطعام لاطفالها أو مدينة جبلية تتجمد بردا سيكون من الصعب تجاوزه فكريا أو منطقيا, وهنا أنا أتكلم عن موضوع يتصل بقطاع الطاقة والحياة, حيث هناك الكثير من المواضيع التي يمكن اثارتها ولكنها حقيقة خارج نطاق خبرتي ومعرفتي.

هناك منظوران دائما لرؤية أزمة ما, المنظور الأول المنظور قصير المدى ويفترض أن يتعامل مع الحد من آثار الازمة للتخفيف من المضار التي تسببها على الحياة العامة للسكان, أما المنظور الثاني فهو طويل المدى ويفترض أن يتعامل مع جذور الأزمة وكيفية معالجتها مستقبلا.

لا شك أن هناك معالجات آنية للأزمة وتقوم بها شركة البريقة لتسويق النفط بصورة كفؤة ولكن الازمة أكبر من تستطيع الشركة أن تحتويها في فترة قصيرة.

وبينما يكون الانشغال حاليا في معالجة العجز هنا أو هناك لا يجب أن يثني ذلك عن البحث في الأسباب الجذرية لهذه المشكلة المتكررة وكيفية معالجتها مستقبلا.

الامر حقيقة مؤسف لأنه أمر مقدور عليه ولا يجب أن يتكرر بهذا السوء في بلد منتجة للطاقة بشكل كبير.

جذور الازمة ترجع في رأيي إلى ما يلي:

أولا: في نهاية العقد الماضي ظهر فكر اقتصادي ينادي بإلغاء الدعم على الوقود, وبناء عليه تم إعادة هيكلة نظام توزيع الوقود بحيث ألغي الاحتكار المطلق لشركة البريقة لتسويق النفط وتم تقسيم نظام التوزيع على عدة شركات لتسويق المنتجات البترولية.

ثانيا: تم قصر نشاط شركة البريقة لتسويق النفط على إدارة تخزين المنتجات النفطية وتسليمها للموزعين.

ثالثا: قامت شركة البريقة بتسليم كافة الأصول التي تتعلق بتوزيع وبيع المنتجات النفطية إلى الشركات الخاصة الجديدة, بما فيها المحطات وأصول أخرى.

رابعا: حدث خلاف على من يقوم بتوزيع كل منتج فبينما قفزت الشركات على المنتجات ذات الربحية العالية مثل البنزين, الديزل, الكيروسين وزيوت التشحيم, رفضت في نفس الوقت تسلم مسؤولية توزيع وبيع أسطوانات الغاز ضمن نشاطاتها لأنها غير مربحة بسبب تكاليف النقل المرتفعة وعدم وجود هامش ربح كافي. وبينما يوجد نظام موزعين للغاز إلا ان هذا النظام غير منضبط من ناحية ازدواجية سلطات الاشراف عليه وتبعيته فهو نظريا نظام تجاري مستقل يتبع وزارة الاقتصاد التي لا تملك أية خبرة في مجال توزيع الوقود وتقوم شركة البريقة بالإشراف الفني عليه وهذا فضلا عن مخالفته للقانون حيث أن الشركة لا تمتلك سلطة الاشراف فإن الشركة لا تمتلك إمكانات المتابعة وفرض النظام عليه, ولا يمكننا أن نتغافل عن فشله بالقيام بالمهمة  .

خامسا: لا ألقي باللوم هنا على أي طرف حيث إن الشركات الخاصة وفقا لمنطق الربح لا يتوقع منها أن تغامر بأموال الملاك ولا تمتلك شركة البريقة الإمكانات المالية للمحافظة على نظام توزيع وبيع بدون إمكانات وأصول موظفة له.  كما أني اختلف مع من يقولون بأثر ما لتهريب الإسطوانات حيث من ناحية الاقتصاديات لا يوجد حافز على الاطلاق لتهريب هذه الشحنة الحرارية الصغيرة على وسيلة نقل ربما تصرف وقود أكثر من قيمتها.

سادسا: نظام التوزيع الذي يعتمد على إعادة الملء الإسطوانة يقوم على حقائق أساسية وهي:

– دورة حياة الإسطوانة وهي العمر الافتراضي لها الذي نظريا يجب أن يبلغ 5 سنوات قبل أن يتم تخريدها.

– مركزية نظام دورات التعبئة من حيث الربط مع مستودعات رئيسة يسهل نقل الغاز إليها عن طريق البحر.

– ارتفاع تكلفة النقل مقارنة بالمنتجات السائلة من ناحية الاحتياطات الأمنية وثقل وزن العبوات مقارنة بالشاري الفردي.

ثامناً: في ظل الفرق بين سعر الغاز وسعري الديزل والكيروسين المعمول به الآن فإن هناك جاذبية كبيرة لأصحاب المصانع والمراكز التجارية والمخابز والمطاعم لاستعمال الغاز بدلا من الديزل أو الكيروسين لتعظيم ارباحهم ومن هنا فأن الاستعمالات الصناعية والتجارية تطغى على الاستعمالات المنزلية, وبالنظر إلى ارتفاع القدرة الشرائية لهؤلاء مقابل القدرة الشرائية لأصحاب الأسر فأن الكثير من الكميات تنتهي في غير  مقصدها.

تاسعاً: يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن الطلب على الأسطوانات طلب موسمي وهذا يزيد في تعقيد عملية التوزيع حيث يخف الطلب صيفا ويزداد شتاء أو في مواسم الأعياد والمناسبات.  كما إن الاعتماد منزليا على الأسطوانات لفترة طويلة من الزمن ألغى بدائل كثيرة أو قلصها إلى حد كبير وأصبحت غير متاحة مثل الفحم والحطب وهي بقدر عدم حضارتيها هي مضرة للبيئة والصحة العامة.

عاشراً: في ظل هذا الوضع فأن هناك ضبابية تسبب تكرار الازمة تتعلق بالآتي:

الجهة المسؤولة عن الاستثمار في تجديد مخزون الأسطوانات, يجب أن نلاحظ هنا أن تكلفة الأسطوانة الجديدة تصل إلى 80 دولارآً تقريبا بينما ما يتم بيعها به من الشركة 50 ديناراً ليبيا تقريبا وهذا سيسبب في عجز ينبغي تغطيته أما عن طريق الدعم أو عن طريق رفع بيع سعر الأسطوانة (فارغة).

الجهة المسئولة عن تغطية تكاليف النقل لمواقع الاستهلاك حيث إن سعر البيع للإسطوانة ممتلئة لا يغطي إلا تكلفة التشغيل وجزء من تكلفة الغاز الموجود بها.

– قصر عمر الإسطوانة في ليبيا عن العمر الافتراضي لها نتيجة سوء عمليات التوزيع التي تسبب اعطابا غير قابلة للإصلاح وهذا يرفع في التكلفة.

كيف يمكن أن نعالج هذه الازمة:

من ناحية المدى القصير فإنني أتفق مع التدابير التالية:

تشديد الرقابة من الحرس البلدي على قنوات التوزيع بالتعاون مع شركة البريقة لتسويق النفط.

زيادة التشغيل في شركة البريقة وهذا إجراء روتيني تقوم به دوريا في مثل هذه الحالات.

دعم الحكومة بمبالغ مالية مخصصة لهذه النوعية من الازمات يساعد الشركات على تخطيها مع الرقابة

من ناحية المدى الطويل فأنني أرى الآتي:

تتطلب الحاجة الآن إلى إعادة النظر جديا في هيكلية توزيع الوقود في ليبيا وعدم ربطه بموضوع التقدم الحاصل في موضوع إصلاح الدعم.

يجب أن يلاحظ أن الدعم الحكومي للغاز المسال أمر لا مفر منه في الاقتصادات النامية سواء في سعر شرائه أو تكلفة نقله, هذا موضوع حيوي في نقل المجتمع درجة أعلى على سلم الطاقة بعيدا عن الوقود العضوي أو الحجري ووصولا إلى الكهرباء في حال توفرها

يجب أن تعين الدولة جهازا مسؤولاً مسؤولية تامة على تنسيق وتوزيع وبيع الإسطوانات وألا تتركه ضبابيا موزعا بين جهات متعددة.

في نظام اصلاح الدعم المنتظر أو حتى قبله يجب أن يتم توسيع الفرق بين سعر الغاز وسعر الديزل والكيروسين للحد من استعمال الغاز في الأغراض التجارية والصناعية, أو تخصيص عبوات معينة «كبيرة» مخصصة للاستعمال التجاري وبسعر أعلى نسبياً.

شاهد أيضاً

في عامها التسعين: كل عام وأنتِ فيروز الماضي والحاضر والمستقبل

الحديث عن السيدة فيروز، لا يحتاج لأي شرح، يكفي أن تستمتع لأعمالها الفنية الثرية، التي …