د. علي عاشور
باختصار
الصحافة ليست مجرد مهنة عادية، بل هي رسالة إنسانية ومسؤولية اجتماعية غاية في الأهمية، إنها العين التي تري وتراقب، والأذن التي تسمع، واللسان الذي يعبر بما يعجز الآخرون عن البوح، فهي الجسر الذي يربط المواطن العادي بمتخذي القرار في الدول والحكومات.
وهي المرآة التي تعكس الحقيقة بجميع أبعادها وجوانبها، لهذا فهي لا تنحصر في جنس واحد أو فن واحد، فبين الصحفي الميداني الذي ينقل الأحداث فور وقوعها، وكاتب الرأي الذي يغوص في أعماق النقد والتحليل، تمتد مسارات متعددةومتشابكة كلها تساهم في صياغة المشهد الصحفي.
كما لا يمكننا إنكار أن الصحافة مهنة متعبة تحتاج إلى شغف وجهد مستمرين، إنها ميدان مزدحم بالتحديات والصعوبات التي لا تنقطع، حيث يسعى الصحفي لكشف الحقيقة وسط عواصف من الضغوط والمخاطر.
لكن ماذا عنا نحن كتاب الرأي الذين لا يلاحقون الأحداث، بل يتأملونها وينقدونها من زوايا مختلفة؟ وماذا عنا نحن الذين اخترنا الوقوف على حافة هذا الميدان.
عن نفسي، استطيع القول أني لست صحفياً بالمعنى الدقيق للكلمة، وهذا ليس اعترافاً يخجلني، بل حقيقة أكررها بفخر، أنا أستاذ جامعي متخصص في علوم الاتصال والإعلام، أمضي وقتي بين تدريس النظريات الأكاديمية وتحليل الممارسات الصحفية، وأكتب زاويتي الأسبوعية بانتظام، وإن كنت حالياً مكلفاً بإدارة صندوق دعم الإعلاميين.
لكني تدربت على فنون التحرير الصحفي، بل مارستها في بداياتي، حيث تعلمت كيفية صياغة الأخبار، وكتابة التقارير، واعداد وإجراء الحوارات، كنت -كما علمونا- ألتزم بقواعد المهنة وأتبع خطواتها بدقة، لكنني مع الوقت اكتشفت أن الصحافة ليست فقط جهد وممارسة، بل حالة ذهنية وطريقة تفكير أيضاً،ومن هنا، وجدت نفسي أنجذب أكثر نحو كتابة مقالات الرأي، ففيها المساحة أوسع والحرية أكبر
فأنا لست من أولئك الذين يهرولون خلف الأحداث أو يتسابقون للحصول عليها لنشر الأخبار العاجلة، ولا أحمل دفتراً بين يديلتسجيل الملاحظات الميدانية، ولا أخوض غمار المؤتمرات الصحفية أو أقابل المسوولين للحصول على تصريحات حصرية، لكن هذا لا يعني أنني أعيش على هامش الصحافة، بل اخترت زاوية مختلفة، ففي الوقت الذي يجري الصحفي خلف الوقائع، أجلس أنا لأراقب بتأمل، وأعيد صياغة المعاني التي تختبئ خلف التفاصيل لأكتب عنها.
كما أن الصحفي يلتزم بالحياد ويتبع سياسة وسيلته، أما أنا فأنتقد الأحداث بعقلي وأسخر منها بقلمي، في محاولة لكشف ما هو أعمق مما هو ظاهر للعموم من وجهة نظري.
ومع ذلك، قد ينظر إلينا – نحن كُتاب الرأي – على أننا متطفلون على المهنة، أو أننا نعيش حياة أسهل، يقال: الصحفيون يكتبون من قلب المعركة، بينما كاتب الرأي يجلس في أبراج عالية، لكني أريد سؤال هؤلاء، من قال إن بناء رأي مستقل مهمة سهلة؟ الصحفي يجمع الأخبار، أما كاتب الرأي يغوص في أعماقها، وينتقد الظواهر والقضايا، ويواجه الأفكار بالأفكار.
لذلك، أقولها صراحة: أنا لست صحفياً، ولن أدعي ذلك، لكنني لست بعيداً عن هذه المهنة التي أحبها وأحب كل المنتمين لها، اخترت أن أكون كاتب رأي، أستخدم الحروف لفتح نوافذ جديدة أمام القارئ، وأترك له مساحة للتفكير وطرح التساؤل، وبربما للبحث عن إجابات.
الصحافة ليست فقط للمراسلين والمحررين، هي أيضاً بحاجة إلى أصوات تسلط الضوء على القضايا والأحداث التي تغيب في زحمة الأخبار المتسارعة، قد لا أكتب من الميدان، لكنني أكتب من عمق التجربة والفهم، أراقب، وأحلل، وأعيد صياغة المشهد بأسلوبي الخاص، مدركاً أن الصحافة والعمل الأكاديمي وكتابة الرأي هي في النهاية مجالات تتكامل لتخدم القارئ بطرق مختلفة.