منصة الصباح
الغربة تعبرُ ب"أماني عبد الدائم" إلى الضوء

الغربة تعبرُ ب”أماني عبد الدائم” إلى الضوء

حنان علي كابو

 تبرزُ تجربة الفنانة والمصورة الليبية أماني عبدالدائم كصوتٍ أنثوي متعدّد المواهب، في رحلة تتقاطع فيها الغربة مع الإبداع، حملت معها من مدينتها “درنة” شغف اللون والحرف والصورة، لتعيد صياغة حضورها في منافٍ بعيدة..

بين لوحاتها التي وجدت طريقها إلى أغلفة الكتب، وصورها الفوتوغرافية التي تحولت إلى قصص بصرية، وتجربتها في التعليق الصوتي والكتابة، نسجت أماني مسارًا إنسانيًا وفنيًا لا يخلو من التحديات، لكنه ظل متمسكًا بجوهره ،الإصرار على أن يكون الفن وطنًا آخر لا تغادره الروج..

الغربة سؤالٌ مفتوح

تشكل الغربة نقطة انطلاق في حواري معها، حيث تستهل “أماني” حديثها قائلة:-

الغربة ليست مجرد مكان نذهب إليه، بل هي رحلة معقدة ومتعددة الأوجه، قد تكون اختيارًا، وقد تكون قدرًا..

تتساءل.. الغربة أو الاغتراب؛ هل هو مرتبط بشكل مباشر بمكان أم شعور؟ أم أننا نحمل في داخلنا تركة حسية، تجعل الأماكن الغريبة كأنها سكنت فينا قبل أن نسكنها؟..

ولدت “أماني محمد عبد الدائم” في مدينة درنة، وترعرعت فيها بين دفء البحر وجمال المدينة. تخرجت عام “2003” من قسم اللغة الإنجليزية بجامعة عمر المختار، حاملة معها وعيًا مزدوجًا بين اللغة والفن، بين النص والصورة. هذا الوعي انعكس على كل تفاصيل تجربتها لاحقًا، وجعل من الغربة مسرحًا لاكتشاف الذات والإبداع الفني معًا..

من أعمال الفنانة “أماني عبدالدائم”..

في هذا الصدد تضيف:-

“أشعر أحيانًا أن الغربة كحُمّى تُرسل لهبها إليّ.. أحترق بين هواجسي وذهاني.. كأن الشيطانة تسكن داخلي، وأحاول الهروب من الظل والصمت، أجرّي دمي على رصيف الأيام، أسرق مني كل طيف وكل صمت، وأحاول التلّفت لأمسك بقطرة ضوء في أعماق غُربتي وأسراري.”

ضريبة الطريق..

لكل رحلة ثمن؛ تذاكر الطريق، التكيف مع صعوبات الوصول، وبناء حياة جديدة. تواصل  أماني حديثها ..

“عندما أثثت لنفسي مكانًا آخر، استغرق مني الأمر سنوات لبناء حياة جديدة، وذكريات جديدة، وتحديات جديدة. بناء حياة مختلفة تمامًا استهلك الوقت مني، وتطلّب تركيزًا كبيرًا لأغرس نفسي في أرض أخرى حتى أنمو فيها. ربما كان أحد الأثمان التي دفعتها هو قلة نتاجي الفني، ولكني لم أتركه كما لم يتركني؛ فهو الضوء الذي ينير داخلي كلما اشتدت العتمة.”..

من أعمال الفنانة “أماني عبدالدائم”..

الاندماج وتجربة الآخرين…

خبرتها في التعليم، كمعلمة للغة الإنجليزية لسنوات في المدارس العامة والخاصة، أعطتها منظورًا عميقًا لبناء الجسور بين المعرفة والفن، حيث أشرفت على الطلاب ورعت مواهبهم الفنية من خلال إقامة معارض خاصة بهم وتحفيزهم على الإبداع..

“في المرحلة الحالية، أستطيع أن أقول إني تجاوزت التحديات الكبيرة. البعض يظن أن الغربة تفتح ذراعيها لك بسهولة، ولا يعلمون أنه لا بد من أن أُصارع تلك الأيادي القابضة لتفتح لي مكانًا لاستقبالي، وقد فعلت. لدرجة أنني الآن أعمل في منظمة تساعد المغتربين أو القادمين الجدد الذين واجهوا صعوبات متدفقة من ثقافة مختلفة وقوانين مختلفة، وتساعدهم على كيفية الاندماج في مجتمع جديد عليهم تمامًا، وكيف لهم أن يصبحوا مواطنين فيه ويبنوا مستقبلًا..

أعمل كموجهة لهم وأتابع بدقة مسارات الاندماج وتعلم اللغة وربطهم بسوق العمل، وتقديم ورش عمل لهم..

أنا سعيدة لأن الفرصة مُنحت لي لأعمل مع فريق كبير من الزملاء الرائعين، الذين يؤدون الدور نفسه ونتعاون معًا في ذلك. تلك الفرصة جعلتني أقدم للقادمين الجدد تجربتي وكيف تجاوزتها لأساعدهم.”

عمل “أماني” المدني ليس غريبًا عليها، فقد كانت موظفة في مكتب التثقيف والنشاط التربوي – قسم الوحدة الفنية، وناشطة في مؤسسات المجتمع المدني، ما أضاف لرؤيتها عمقًا اجتماعيًا وإنسانيًا..

“وأحيانًا أرى في هذا الدور المدني نوعًا من الشعر الحيّ، حيث تتلاقى الأرواح وتتشابك المشاعر، وكأن كل نجاح صغير للآخرين يشعل شعلة في داخلي، تمامًا كما يشتعل النص في داخلي حين أكتب أو أصوّر.”..

الفن الفوتوغرافي: هدية القدر..

“على الرغم من أن عملي بعيد تمامًا عن فني وشغفي، لكني أيضًا لم أتخلَّ عنه، لأنني تمكنت من العمل في الوقت نفسه في شركة في قسم التصوير الفوتوغرافي. هنا كان عالمي الذي لم يُهمَل بسبب انشغالي في بناء حياتي ومستقبلي، وأتاحت لي تلك الشركة أن أطور من نفسي في التصوير الفوتوغرافي، والتعامل مع البرامج المختلفة. ربما كانت هذه هدية القدر لي؛ فقد تمنيت يومًا أن أدرس التصوير بشكل أكاديمي، ورحلة العمل والتعلم في تلك الشركة، لا تختلف عما يتم تدريسه في الكليات.”..

كون “أماني” عضوًا مؤسسًا لتجمع الفنانين التشكيليين في درنة، وعضوًا في اتحاد التشكيليين الليبيين، جعل الفن التشكيلي حاضرًا في قلبها، يطلّ من نافذة التصوير ويغذي مشروعها البصري..

“أشعر أحيانًا أن الكاميرا هي امتداد ليدي ولقلبي، تمامًا كما تنبض الكلمات في دفتري. كل صورة تحمل قصة، وكل لحظة ضوء تُسجل كأنها جزء من حُمّى الغربة نفسها.”..

لوحات تسافر أبعد من الغربة..

“في الفترة الأخيرة، أصبح نتاجي في التصوير الفوتوغرافي أكثر غزارة من أي وقت مضى، ولا زلت أعمل على تطوير نفسي في مختلف مجالاته ومحاوره. الغربة وضريبتها الباهظة هي قلة إنتاجي الفني في الفن التشكيلي، جوهري وذاتي يتصل بشكل مُباشر بالفن التشكيلي، ولكن الركض المتواصل دون استراحة سرقني بعيدًا عن ذلك العالم الجميل. وعلى الرغم من ذلك، كانت لي بعض اللوحات التي أنتجتها رغم تلك الظروف، واستُخدِمت إحداها غلافًا للكاتب “محمد التلِّيسي”، ونتج بعد ذلك تعاون آخر لروايته “تلاحم الحواس”، حيث رُسِمت اللوحة خصوصًا للرواية..

هذا التعاون والتناغم الجميل بين لوحاتي ورواياته، بين حرفه ولوني، بات كبصمة التحمت بين الرواية واللوحة، ولاقت ثناءً من الناقد الأدبي “يونس الفنادي”، الذي كتب بشكل تحليلي دقيق عن اللوحتين، وفكك رموزهما وملامحهما، وكيف كانتا نافذة تشد القارئ للروايتين.. كنت سعيدة للغاية بذلك المقال، وممتنة للكاتب محمد التليسي.”..

كما حظيت لوحتها الأخيرة “مهاجرة في ضباب الحنين”، بأن تكون غلافًا لديوان الكاتب المصري “أحمد سعيد عبد الخالق”، بالتعاون مع ابنتها “نور”، لتصبح هذه التجربة جسرًا بين الثقافة المصرية والليبية..

“أشعر أن اللوحة واللون يشبهان النصوص التي كتبتها، يتنقلان من الغربة إلى الضوء، ومن الألم إلى الأمل، تمامًا كما في نص حُمّى الذي ينبض بداخلي.”..

الصوت بُعد آخر للتجربة..

“في رحلة الغربة، وخاصة في فترة كورونا، اكتشفت مهارة جديدة، التعليق الصوتي والتمثيل الصوتي. قمتُ بتنمية تلك المهارة وتعمقتُ في أساليبها، وباتت لي أعمال صوتية إلى جانب أعمالي البصرية من لوحات وصور. أصبح الصوت أيضًا يمثل روحًا وحكاية. كنت سعيدة للغاية بما تعلمته في ذلك المجال الجميل..

وخضت تجربة التدريب، حيث قمت بتدريب فتاة موهوبة للغاية؛ “حور البكوش”، من مدينتي الغالية درنة. وقد حصلَتْ على ترتيب متقدم على مستوى ليبيا..

التدريب الذي تلقته مني، كان بمثابة حجر أساس لأسرار التعليق الصوتي والتكنيك الصحيح، أما البناء الكامل فيعتمد بشكل مباشر على “حور” واستمرارها في تطوير نفسها وموهبتها. وقد كانت كذلك، لتصبح أصغر مذيعة غطَّت مناسبة دولية مع المذيع المخضرم والإعلامي المتألق “طه بوبيضة”. سعادتي غامرة لأنني لم أحتكر رحلتي في التعلم لنفسي، بل ساهمت ولو بشكل بسيط في إثراء خطوة من خطوات براعمنا الفتية التي نفتخر بها.”..

“في هذه التجربة، أحيانًا أقرأ نصوصي بصوت مرتفع، وكأن حُمّى الغربة تنبض بين كلماتي، وتصبح الصورة والصوت والكلمة وجهًا واحدًا لتجربتي.”

الكتابة: الصوت الذي لم يخفت..

“على الصعيد الأدبي، لم أتبرأ من الكتابة أبدًا؛ بل أفكر الآن بجدية في نشر كتاب قد يجمع ما خطَّتْه يدي وما ستخُطه. أما مصيره؛ فهل يرى النور أم يبقى طيَّ الكتمان معي، فهذا ما أتركه الأيام لتقرر. فالكتابة ليست مجرد نسج حروف، بل هي صوتنا الذي ابتلعه الصمت، وهي الروح التي تعجز الكلمات عن ترجمة ما بداخلها.”

“كل حرف أكتبه هو محاولة لإيقاظ الضوء في داخلي، تمامًا كما تحاول حُمّى الغربة أن ترسله إليّ، وأنا أحوّله إلى قصيدة، لوحة، أو صوت.”..

شاهد أيضاً

بحث فرص التعاون بين مؤسسة النفط و"شيفرون" الأمريكية

بحث فرص التعاون بين مؤسسة النفط و”شيفرون” الأمريكية

بحثت المؤسسة الوطنية للنفط في اجتماعٍ تنسيقي لها مع شركة “شيفرون” الأمريكية في العاصمة البريطانية …