إطلالـــــة
بقلم/ جمال الزائدي
هذه ثلاثة نماذج من تجربة بدأتها منذ أسابيع ..أدون فيها يوميات رحلتي على متن ” الأفيكو” من منطقة سكناي إلى مقر العمل ..أحببت أن أشارك فيها قراء الصباح ..
أفيكوات 16 نوفمبر
أن تصحو على أنغام المدفعية وتدخل حمامك وترتدي ملابسك على أنغام المدفعية وتنتظر الأفيكو على ذات الأنغام ، فتلك رومانسية نادرة لن تحصل عليها إلا في هذه البلاد النادرة ..كعادة أيام السبت زحام قليل وإيقاع حركة بطيء ، وركاب الافيکو هم أنفسهم تقريبا الذين رأيتهم الأسبوع الماضي .. مجموعة من كبار السن حفر الزمن بمخالبه الدامية أخاديده على وجوههم المكدودة تحصنوا جميعهم وراء جدار سميك من الصمت ..عند المدخل الرئيسي لما كان يعرف بحديقة الحيوانات صعد صبيان يافعان وكان لصعودهما معجزة بعث الحياة في افيكو الأموات هذا .. مستخفان بالحرب والموت وقذائفه العشوائية انهمكا في حديث صاخب عن مباراة المنتخب الوطني الليلة البارحة ..بعد أن أفرغا جام غضبهما على البنزرتي واتحاد الكرة ، انتقلا بكل سلاسة للحديث عن الألعاب الالكترونية والبلاي ستيشن المعطل الذي يحمله أحدهما في كيس بلاستيك..
عندما وصلت محطتي كنت مثقلا بالامتنان ..لا أحد يستطيع أن يهزم الحياة في القلوب الغضة حتى حروب الأهل الغبية، صباح الخير..
أفيكوات 17 نوفمبر
الوجه الأبشع للحرب يعرفه أب عاجز مغلوب خرج من بيته خوفا على فلذات أكباده من الموت غيلة تحت القذائف العشوائية ..وأنتم تجلسون خلف “الكي بوردات وشحوا صدر الحرب بما استطعتم من مبررات وشعارات فخمة , وحرب مقدسة ..حرب وطنية حرب ضرورية ..لكن إذا شاء حظكم العاثر كما شاء حظي أن تلتقوا ذلك الستيني عند محطة الأفيكو وهو يسأل المارة والواقفين عن بيت للإيجار لا يتجاوز سعره 500 دينار ولا يتلقى غير ابتسامات مشفقة أو مستخفة ، عندها ستعلمون انه لا قداسة ولا مجد لأي حرب أهلية يدفع ثمنها البسطاء .. عندما صعدت الأفيكو كنت مجرد جثة تتحرك بحكم العادة ، في آخر صف للمقاعد إلى جانب النافذة وجدت مکانا شاغرا ، وصورة الكهل النازح تأبى أن تفارق نظري ..لم أكن اسمع ولا أرى شيئا طوال الطريق ..هاجس واحد مخيف كان يستولي على عقلي وروحي : ماذا لو طالت هذه الحرب اللعينة واضطرتني وأطفالي إلى مغادرة بيتنا , تراني على أي رصيف أو محطة سأتسول سقفا يقينا البرد وعيون الفضوليين..؟
صباح الخير أيها الآباء الممتحنون في وطن قست قلوب سادته..
أفيكوات 20 نوفمبر
في محطة الانتظار المعتادة ..تستند بكتفها النحيل إلى عمود الإنارة المجاور. سيدة ” ليبية ” يصعب تقدير سنها ، تتوشح بیاض فراشيتها قادمة من الأزمنة الدافئة بالحشمة والدلال والأصالة.
كم أحببت رؤيتها في هذا الصباح المفعم بالقلق ورائحة البارود ولست ادري ما الذي يعطي للفراشية الليبية رمزيتها الفائضة بالأنوثة في وجداننا نحن جيل الوسط الذين لم نرى زوجاتنا وأخواتنا وجزء كبير من أمهاتنا يرتدينها .. عندما صعدت وإياها إلى الأفيكو المزدحمة كانت المقاعد مشغولة ، وبينما ظللت واقفا تطوع الشاب المرح الجالس بجوار الباب ، ليترك مكانه للملكة الراقلة في البياض ، كما لو كان إبنا بارا وضع يده بحركة جريئة على كتفها طالبا منها الجلوس في الزحام والوقوف المتكرر المزعج والاضطرار للنزول كلما وصل احدهم إلى محطته ، يصعب على المرء التركيز على أي شيء. مع ذلك كان إحساس بالامتنان يفيض به القلب لأن الصدفة جعلت لصباحي مذاقا مختلفا .شكرا للبياض ولكل الألوان التي تصنع الفرح ..صباح الخير