زايد…ناقص
قلقٌ وأرَق
جمعة بوكليب
آخرُ أبواب المحروسة طرابلس الغرب أسموه “الباب الجديد.” واستناداً إلى المصادر التاريخية، كان ذلك في عام 1865، أي في العهد العثماني الثاني، في عهد الوالي التركي الحاج أحمد عزّت. حفروه في الجهة الجنوبية الغربية من سور المدينة، تعويضاً عن باب زناتة، الذي تعرض للإغلاق نتيجة للحرب الأهلية بين أبناء الباشا يوسف القره ماللي. على عكس الأبواب الأخرى، التي بمرور الوقت فقدت أبوابها الخشبية، حافظ الباب الجديد على ضلفتي بابه الخشبي، رغماً عن عوارض الزمن والطقس وعبث البشر واهمال الحكومات. المؤرخون على اختلافهم، كعادتهم، حرصوا على توثيق اسم الوالي العثماني الذي أنجز في عهده الباب. لكنهم، كعادتهم أيضاً، تقاعسوا متجاهلين توثيق اسم النجّار أو النجارين، الذين صنعوه. حين كنت صغيراً، انجذبت بدهشة إلى ضخامة ضلفتي الباب، كبرادة حديد إلى مغناطيس.
2- منذُ القِدم، حرص مصممو القلاع والحصون والأسوار والقصور على تصميم باب أو أبواب للدخول، وآخر أو أخرى للخروج، لأسباب عديدة. تصميم أبواب الدخول يختلف عن تصميم أبواب الخروج. أبواب الدخول عادة تكون في الواجهة. واسعة وضخمة وجميلة. أبواب الخروج عادة في المؤخرة، صغيرة وضيقة في أغلب الأحوال، لوقوعها في أزقة، أو شوارع جانبية لا يمر بها المارة الا نادراً. لكن أبواب المدن القديمة، مثل الباب الجديد، كانت في العادة تستخدم للداخلين والخارجين على السواء. ويختلف الأمر في القصور، والقلاع، ومعسكرات الجنود، ومخابئ المهربين، وبيوت البغاء، والقمار، وفي المحلات التجارية الكبيرة.
3- لا أعرف السبب الذي جعلني صغيراً أهتم بالباب الجديد. وربما يكون ذلك الاهتمام من بذر في داخلي عشق الأبواب القديمة. خلال طوافي وتجوالي في مدن العالم المختلفة، رأيت أبواباً ضخمة عديدة. وكنت كلما رأيت باباً عظيماً في مدخل قصر أو قلعة قديمة، انجذبت نحوه، ووقفت أمامه مقارناً بينه وبين ذلك الباب الخشبي العتيق في الباب الجديد. وتبيّن لي، أن ذلك الباب، القابع في تلك البقعة القديمة من ذاكرتي، لا يستطيع الصمود أمام أي مقارنة تعقد بينه وبين ما رأيت وعرفت من أبواب، حتى صرت أشعر بالشفقة والرثاء لحاله، نتيجة لما يعانيه من إهمال، ما تعرض له من تخريب. وأخيراً، اضطررت إلى انتزاعه من ذاكرتي من دون مشقة، وأحللت محله أبواباً أخرى، أجمل و أبهى وأحلى، محلاة بنقوش وزخارف، تنتصب عالية أمام قلاع عظيمة، وفي واجهة قصور مهيبة، كان يسكنها أمراء وأميرات ونبلاء ونبيلات، ومليئة بخدم وحشم.
اهتمامي كان منصباً على الأبواب الأمامية. الأبواب الخلفية المخصصة للخروج لم تنل اهتمامي إلا مؤخراً، وبعد تقدمي في العمر، واحساسي بقرب النهاية. والنهاية، في حالتي، تعني شيئاً واحداً لاغير: المغادرة بلا عودة. لذلك، صرت أهتم بالبحث عن أبواب خروج، تمكنني من مغادرة الدنيا بهدوء وسلام وأمان واطمئنان. ما أقلقني أنني لن أتمكن من مغادرة دنياي، قبل مغادرتي أسوار غربتي. العودة إلى تلك المدينة البعيدة، المسماة طرابلس الغرب، دخلت، مؤخراً، حيّز الاستحالة، نتيجة ما تشهده من حروب، وفقدان الأمن والأمان في السنوات الأخيرة، ولما حلَّ بأهلها من خوف، وما شهده، ويشهده بحرها من أهوال عجيبة، ولما استحوذ على سمائها من جزع حتى عافها الطيرُ. لكني، بعد تفكير وتأمل توصلت إلى قناعة، بإمكانية تغيّر الأمور والأحوال، وربما عودتها إلى سابق عهدها.
العقبة التي ظلت تقلقني، هي كيف يمكنني مغادرة أسوار غربتي، مع علمي المسبق، ومنذ البداية، بانعدام وجود أبواب خروج، أمامية أو خلفية، حتى الآن؟