منصة الصباح

“حمارة القاضي”

“حمارة القاضي”

جمعة بوكليب

قصة الولادة المرتقبة لـ “حمارة القاضي”، لم تكن يوماً محل نقاش. فهي، بعلم الجميع، قضية محسومة منذ مئات، إن لم يكن آلاف السنين. ولا تحتاج إلى تخمين. أهمية تلك الحمارة، ذائعة الصيت، تعود، أولاً وأخيراً، إلى كونها محظوظة، بان امتلكها قاضٍ. وهي، على سبيل التذكير، حمارة لا يخلو منها بلد، أو بلدة، أو قرية، في كل العالم، يوجد به قاض. ووثقها المؤرخون في كل حقب التاريخ وعصوره، باشكال مختلفة، تتفق والسائد من الدواب، في مختلف الأمكنة.

الحمارة المعنية، مثل كل حمير العالم، تنهق، وتأكل البرسيم والشعير. وما يفرقها عنهم أنها، لسبب لا نعرفه على وجه الدقة، ارتضاها قاض لتكون مركوبه. وحين يقرر الله تعالى أمراً كان مفعولاً، وتفارق تلك الحمارة المميزة دنيانا، تحلّ محلها أخرى، وبسرعة. لأن من يشغل تلك المهنة المميزة، لابد له من حمارة يمتطيها.

أمرُ تخمين ما يرقد في بطن حمارته، منتظراً لحظة الميلاد، ليس صعباً ولا معقّداً. فنحن جميعاً نعرف أن تلك الحمارة، رغم ما حظيت به من تميّز، ستلد جحشاً أو جحشة. وأمر انجابها المتوقع خبرٌ مفرح. سيحفّز بالضرورة الناس على زيارة القاضي، بحجة تقديم واجب التهنئة، والمشاركة في إقامة الولائم والأفراح. في حين أن الغرض الحقيقي من تلك اللعبة القديمة الجديدة، هو تجديد البيعة والولاء، وفرصة ثمينة لفئات انتهازية، لتزييت وتشحيم خطوط تواصل تاريخية، موغلة في القِدم، تأسست منذ أن جلس أول قاض على كرسي الحكم، وصار يلقب بـ”عظيم الشأن.”

ما دعاني للعودة إلى هذه القصة التاريخية، هو ما حدث مؤخراً، في قضية القبض على مطلوب للعدالة في منفذ راس اجدير الحدودي، وقيام مجموعة مسلحة بافتكاكه من القوة التي قبضت عليه والفرار، مما أدّى إلى اغلاق الطريق الساحلي، من مدينة الزاوية حتى النقطة الحدودية في رأس اجدير. والأمر، وإن بدا على وجهه غريباً، ليس مدعاة مطلقاً إلى استغراب. لأن انعدام وجود قط يقود، بالضرورة، إلى تكاثر الفئران واستفحال فسادهم وعبثهم.

الحالة التي وصلتها بلادنا من الصراع وعدم الاستقرار هي المسؤولة عن ذلك. حيث ينعدم وجود دولة بأنياب وأظافر، قادرة على تطبيق القانون وتنفيذه.

الحالة نشأت عن صراع طويل على السلطة بين فرقاء عديدين، نتيجة وجود السلاح في كل مناطق ليبيا، في الأيدي الخطأ. وهو ما أدخل البلاد في حروب لا عدد لها. آخرها كان محاولة السيطرة على طرابلس، من طرف قوات من عدة جنسيات، وبعدة أهداف، تابعة للمشير حفتر. ولولا لطف الله، لحدثت كارثة، ولكانت طرابلس الآن، في وضعية لا يعلمها إلا الله.

حالة الاستقرار الحالية مؤقتة. أي أن الهدوء السائد على جبهات الصراع المتعددة لا يكتسب صفة الديمومة، ومُعرّض للانتهاك في أي لحظة. ولأنّه مؤقت فهو، في نظري، يتساوى والتخمين بما ستلده حمارة القاضي( جحش أو جحشة). بمعنى أنه مُعرّض للانتهاك بعودة الحرب، أو احتمال حدوث معجزة تجعله دائماً. ولأنه مثل حبل مشدود بين قائمتين خشبيتين، يجعل من الصعوبة بمكان السير فوقه براحة للانسان العادي، وخشية السقوط في الهاوية احتمال قائم جداً، قد يحدث حتى لبهلوان في سيرك محترف. هذه الوضعية المؤقتة للاستقرار، فرضت على المواطن الليبي وضعية نفسية حرجة تجعله يحاول السير إلى الأمام ملتفتاً إلى الخلف، أي إلى ما مضى من أحداث وحروب مؤلمة. فهو يستمتع بحالة الاستقرار الحالية. لكنه، في ذات الوقت، يتوقع حدوث انتكاسة، في أي لحظة، ترده قسراً إلى المربع الأول.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …