عاش صوت عبدالله عبدالمحسن
عبدالله الزائدي
كان جهاز الراديو قبل ربع قرن وأكثر كجهاز النقال اليوم ، محطات كثيرة وأصوات عديدة ، واغان وبرامج في كل مجال ، يلازمك الراديو في البيت وفي السيارة وفي النزهات والسفر وحتى بحجم صغير لتصطحبه رفيقا في الجيب ، ومع تعدد الإذاعات من كل اصقاع الارض ، كانت الاذاعة الوطنية الرسمية الأكثر استماعا كما اعتقد والاحظ طبعا ،و على أثيرها يستمع الناس الى مذيعين يمتازون بلغة عربية و حرص على تقديم المحتوى برصانة ، وتلك الرصانة كانت من معايير المحتوى الإذاعي في ذلك الزمن ، وعلى أساسها يعتمد المذيع ، ومن بين تلك الاصوات الاذاعية ، كان صوت الراحل عبدالله عبدالمحسن ، مقدم للبرامج الثقافية والحوارية ، مولع بقراءة الشعر ، وتقديم الاعمال الأدبية بشغف وفي تجل ، ليصبح بأسلوبه المتقن في التقديم صاحب مساحة مميزة في البرامج الثقافية .
عشق عبدالله عبدالمحسن الاذاعة فأعطاها جهده و شبابه ، وكان بين أروقتها و مع زملائه نموذجا في الأدب الجم ، يجتهد ويتعب في تجهيز كل حلقة قبل دخول الاستوديو ، يختلط في وجدانه عشق الاذاعة بحب الأدب والشعور بالمسئولية أمام المتلقي ، وكانت حياته كدا وعملا لاينقطع ، يواجه الصعاب بهدوء وابتسامة و همة عالية ، هكذا عاش وهكذا عرفه الجميع ، لايشتكي احدا ولا يذم أحدا ولا يقول إلا الكلمة الطيبة .
التحق عبدالله عبدالمحسن بجامعة بنغازي عام 1972 ليدرس القانون ، وبدأ العمل في الاذاعة وهو في أول سنوات الكلية يافعا نشطا متوثبا عاشقا لناقل الصوت بموهبة حقيقية ، كان طالبا يدرس ومذيعا يعمل يحمل معاناة كل يوم بهمة الشباب، وفي تلك الفترة الصعبة من كفاح بواكير العمر، تعرف على فتاة وجد فيها رافدا لحياته ، وقرر في عامه الثاني من الكلية أن يوقف دراسته، و أن يضاعف عمله ليقترن بمن اختارها شريكة للحياة ، فالشاب العصامي الكادح لم يكن أمامه غير هذا القرار الصعب ، وخلال عامين انهمك هو في العمل ، وتخرجت هي من معهد القبالة والتمريض على يد السوريلات في مستشفى الجمهورية آنذاك ، ليتوج الكفاح بالزواج ، وبعد أن استقرا، ومباشرة قررت الزوجة أن تقف مع زوجها وتسانده ليعود ويستكمل دراسته الجامعية ، ووضعت الزوجة بحماس برنامجا يمكن زوجها من مواصلة عمله ودراسته ، فتفرغت هي لشؤون البيت مع متابعة جدول محاضراته و عمله في الإذاعة ، وكانت توصله كل يوم بسيارتها بين الجامعة والإذاعة ، فلم يكن يمتلك سيارة ولم يتعلم القيادة بعد ، كما حدثتني شقيقته الاذاعية عفاف عبدالمحسن ، واستمر الحال رغم الإرهاق حتى استكمل دراسته الجامعية وتخرج عام 1977، وعمل باحثا في الادارة القانونية بالجامعة ، كما أشرف على العديد من الصحف والمطبوعات الجامعية ثم أصبح مدير تحرير صحيفة قاريونس من سنة 1985 الى سنة 2005.
استقرت حياته بعد التخرج بين الجامعة والاذاعة والبيت ، استقرار جاء بعد رحلة عاشها منذ مولده عام 1952 بمنطقة مطروح ليعرف التنقل مبكرا في محطات الحياة، غير أن قدره كتب فيه هذا الاستقرار المبكر ايضا.عبدالله هو الشقيق الأكبر للمذيعتين عزيزة وعفاف عبدالمحسن ، ولم يكن فقط شقيقا لهما بل معلما ودافعا قويا ، واعتقد أن كفاحه المبكر في مواجهة صعاب الدنيا وتصاريف الدهر ، صاغ وصقل من روحه الطيبة المرهفة ليكون المعين والمؤازر للجميع .كان خلال سنوات عمله الإذاعي شرها لناقل الصوت ، والقلم معدا ومقدما ، بل وكاتبا للشعر ، كان يعيش نهما للعمل لا ينقطع ، لكنه ليس نهما مطلقا ، بل على ذوق وانتقاء ، فحقق معادلة صعبة فيما أتصور ، فالكثرة والجودة ضدان، الا ان كان صاحب الصنعة عالي القدرة والموهبة ، وهذا ما حققه عبدالله عبدالمحسن ، الذي قدم واعد للإذاعة الكثير الكثير من البرامج ، وعلى مستوى رفيع ، وفي خضم ذلك التدفق الجميل اقتطع من وجدانه للأطفال ، قطعة كانت بحجم كتابة مسرحيات لفرقة مسرح السنابل والذى أطلق عليه لاحقا مسرح عبدالله عبدالمحسن تكريما له بعد وفاتهعاش بين الصحف و اروقة الاذاعة عاشقا ، ومرت سنوات العمر بهدوء حتى داهمه المرض في ذروة عطائه ، واخذ يفترس جسده بينما ظلت الابتسامة لاتفارقه ، وعندما زرته وهو على فراش المرض كان شجاعا مبتسما قويا ، كثير الفكاهة كعادته ، ينازل العلة بالعزيمة حتى صعدت روحه المطمئنة في 18 يونيو 2006 ، وعاش صوته نموذجا ودرسا للنجاح بالاجتهاد والموهبة