منصة الصباح

قد يتحقق الحلم ونطير

قد يتحقق الحلم ونطير

جمعة بوكليب

زايد…ناقص

العباسُ بن فرناس، على حدّ علمي، لم يكن رجلاً يائساً من الحياة، أراد التخلّصَ من حياته بالانتحار، فأعتلى سطحاً عالياً لأحد البيوت ، ذات زمن بعيد، ورمى بنفسه في الهواء، فسقط على الأرض جثة هامدة، رغم امتلاكه جناحين كبيرين صنعهما من ريش.

العباسُ بن فرناس، كما نعرف جميعاً، ، كان رجلا مختلفاً عمن حوله، وسابقاً لزمانه. لأنّه كان رجلاً حالماً، وحلمه أن يطير سابحاً في الهواء مثل الطير. قبله مات حالمون كثيرون، وهم يحاولون تحقيق ذلك الحلم، ووصفوا بالجنون. وبعده كذلك مات كثيرون أمثاله. لكن حلم الانسان بالطيران في الهواء، مثل الطير، لم يمت. ومازال حيّاً ينبضُ في حنايا القلب البشري، ومن يدري فقد ياتي ذلك اليوم الموعود، ويصير الحلم حقيقة.

الطفلُ الذي يولد في بقعة منسية ومهجورة وفقيرة، ونظيره الذي يولد في عاصمة كوزموبوليتيه غنية ومتقدمة ومزدحمة بالبشر، يتساويان في شيء واحد، كونهما يولدان وهما يحلمان بالطيران. كلاهما يصنع طائرة ورقية بطريقته، وبما يتوفر له من وسائل بسيطة، ويربطها بخيط طويل ويطلقها في الهواء. أحياناً تروق له فكرة ترك الخيط الطويل ينسحب من قبضة يده الطريّة، ليرى طائرته الورقية ترحل عالياً وبعيداً، تشارك الطير التحليق في السماء. كلاهما يتمنّى أن يكون كالطير، أن يرفَّ بجناحين ويلاحق طائرته الورقية البعيدة، مقترباً من السحب والغيوم، ومنافساً الطير في ملاعبها.

قانون الجاذبية يقيّد الانسان إلى الأرض. لكن الطير يتحايل عليه. الطيرُ يولد حرّاً ويعيش حرّاً. ولهذا السبب يحبُّ الانسان الطير، لأنه يذكره بالحرّية التي يعيش محروماً منها، ويذكره بجمال العيش طليقاً محلّقاً فوق القيود والتقاليد والأعراف والقوانين والحدود والبحار والمحيطات والأنهار والجبال والسهول والغابات والقفار. وكأنه ملكً يطوف أنحاء مملكته، متى شاء، ويطمئن على رعيته، متنقلاً بثقة ملكية، وبحرّية تحت أكثر من سماء.

الطيرانُ حرّية، والانسان يعشق الحرّية، ويموت لأجلها مُضحّياً بحياته من دون ندم. فهو خلق حرّاً، ولكنه ما أن يغادر رحم أمه، ويطلق صرخته الأولى معلناً عن وجوده، حتى تلف، حول رجليه ويديه ورقبته، القيود والأصفاد المرئية وغير المرئية، بهدف تثبيته على الأرض، وترسيخ قدميه على أديمها، ووجوده فوقها. ويقضي كل سنوات طفولته وصباه وشبابه، وهو خاضع لعمليات غسيل مخّ لا تنتهي، تتضافر جميعاً على شدّه للأرض، ومنعه من التحليق والطيران في السماء. فهو كالأسير في أسره، كلما رفع رأسه عالياٌ وجال بعينيه في رحابة السماء، بان له في أجوائها الطير يحوم طليقاً حراً، شعر بالغيرة، وأحسَّ بالحسد، وتمنّى لو يتمكن من امتلاك جناحين، ويطيرمثله عالياً، لكي يتخلص من الأسر والقضبان. ذلك الحلم، تلك الأمنية، لم تفارق خياله، وظلت تنغص عليه عيشه، ودفعته إلى المحاولة باختراع جناحين كبيرين من ريش. والنتيجة، أنه بعد تلاحق الفشل غير الاستراتيجية، ولجأ إلى العلم، وتمكن من اختراع طائر معدني ضخم أسماه الطائرة، مشتقاً من الطير وطيرانه. وبها تمكن من قهر ضعفه، وقلة حيلته، وصار يطير متنقلاً من سماء إلى سماء، داخل جسم معدني اسطواني، بمحركات ضخمة. لكنه، في حقيقة الأمر، لم يهزم الطير. وربما لذلك السبب، ظلَّ المرءُ منّا يتحسر متى وجد نفسه محشوراً في مقعد طائرة، ومن خلال نافذة صغيرة، يرى الطير تحته يحوم طليقاً من القيود، وحرّاً يتقلب في الأجواء. تلك اللحظة لابدّ وأن يشعر بنغصة صغيرة في قلبه، مثل حسرة، تذكره باخفاقه، ويتمنّى في قرارة قلبه لو يصير حلم الطيران كالطير حقيقة يوماً ما.

شاهد أيضاً

نَحْنُ شُطَّارٌ فِي اخْتِلَاقِ الأعْذَارِ

باختصار د.علي عاشور قبل أيام قليلة نجحنا نحن الليبيون في ما يزيد عن خمسين بلدية …