دفاع الثقافة
الإنسان ثقافته.. ما في ذلك شك.
فهي شكله ومظهره.. وهي روحه وجوهره.. وهي ما يتقدمه في مسيرة حياته، وما يتبقى منه حين يغادر الأرض، ليستمر في جماعة بني الإنسان، التي تحمل الثقافة من بعده، على هذه الغبراء.
كل الظواهر الكبرى في حياة الإنسان المجتمعية هي في حقيقتها أجزاء من الثقافة التي تجمعها ككل؛ وليس العكس…
هذه هي المعادلة الطبيعية في الحياة البشرية، بالنسبة لعلاقة الثقافة بشتى جوانب الحياة.
مثلا، الظاهرة السياسية، أو الظاهرة الدينية، أو الظاهرة الاقتصادية، وغيرها… كلها تنبع من منبع الثقافة، وتجري في مجاريها، وتصب في بحرها اللامحدود…
لذلك، كانت الثقافة، ولم تزل، هي الواقي الأول للإنسان في الحفاظ على وجوده، وبقائه..
بالفكر الناضج، والعقل الواعي بالحاضر، والمستشرف للمستقبل.. وهي أيضا المدافع الأخير عن الإنسان حين تسقط دفاعاته الأخرى؛ سياسيا وعسكريا واجتماعيا واقتصاديا، الخ..
تبقى ثقافة الإنسان القوية تدافع عن هويته.. وعلى رأسها اللغة…
وتدافع عن دينه.. وعلى رأسه العقيدة…
وتدافع عن أرضه.. وعلى رأسها التاريخ…
وتدافع عن وطنه، بكل معانيه.. فتبرز الثقافة، كل هذه الأشياء معا في الوطن.. فهي اللغة والهوية والفكر والدين والتاريخ والتراث.. وكل ما يجسد روح انتمائه، شكلا ومضمونا..
حين تُستهدف الثقافة، يُحارب أولا وقبل كل شيء “العقل”!..
فيُجرجَر تدريجيا ناحية الركود، والجمود، حتى تُشَلّ حركتُه، ويتعطل…!
ذلك يعني محاربة المفكرين، والمبدعين، والكتّاب المجدّدين…
فلا تفكير ولا تنظير ولا تجديد.. وفي أحسن الأحوال، تبقى حالات الجر والاجترار، لما قيل من أمد بعيد..
تُهمّش اللغة فيعجم اللسان، وينطفىء البيان.. ويموت الإبداع…
ويغترب الإنسان عن لغته الأم!! ويصبح مسخا غريبا في لغات أخرى ليست له…!
وتُدَمَّر الذاكرة، بمحو التاريخ، وإهماله، أو تزويره.. فلا نعرف رموزنا، علماءنا وشيوخنا ومناضلينا وأفذاذنا.. حتى شوارعنا نسميها بأسماء غيرنا.. وخطواتنا في أزقتنا وبين ديارنا نقلد فيها خطى غيرنا!.. وكأننا، ليس لنا آباء وأجداد، ملؤوا الدنيا، وشغلوا الناس…
ندمر ونشوه إرثنا الإنساني العظيم، الذي يؤكد أن معظم حضارات العالم الكبرى، مرت من هنا.. وإن أجدادنا كان لهم دور في التشييد والبناء.. ولكن، للأسف، أين هو.. إذا ما دمرناه بأيدينا، وأظهرنا أنفسنا كأننا بلا جذور.. نبتة شيطانية في رحم الظلام.. أو مهجّنون، أغبياء، بلا أحلام.. ولا نستحق إلا الزوال والفناء….
أسهل الطرق في هذه الحرب الشعواء، أن تُفتح جبهات داخلية بيننا، وندعي انتماءات مختلفة؛ سياسية، أو دينية، أو عرقية، أو جهوية، الخ.
ويتم توظيف ضعاف العقول منا، وأنصاف المتعلمين، وأرباع الخبراء، والمحللين.. وأشباه الفقهاء، فيخوّنون، ويكفِّرون.. ويبدّعون، ويجهلون… وتحلّ بالمجتمع مصيبة المصائب… ألا وهي ضرب الثقافة في عمقها.. فتتعطل روحها المبدعة، ويجمد عقلها المنتج لها….
في عالم اليوم، عالم انفتاح الثقافات البشرية على مصراعيها..
لا سلاح حقيقيا لنا، غير هذه اليتيمة.