استثناءاتُ الأصفر
بقلم// جمعة بوكليب
حين نقرأ ما يُكتب ويُنشر من سيرٍ ذاتية، تخُصُّ كُتّاباً مبدعين، نجد أن أرضاً مشتركة – كبيرة أو صغيرة الحجم- تجمعهم. أغلبهم، مثلاً، بدأ علاقة مبكرة بالقراءة، واتجه للكتابة في عمر مبكر.
الروائي محمد الأصفر، كان من ضمن كُتّاب، جاءوا إلى عالم الأدب والإبداع متأخرين نسبياً. الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، على سبيل الثال لا الحصر، كان واحداً منهم، وحقق أدبه وإبداعه شهرة عالمية.
ويقولون إن الموهبة في الفنّ عموماً، وفي الكتابة الإبداعية، على وجه الخصوص، تشبه فُسيّلة توجد لدى أغلب الناس. بعضنا يكتشفها ويمنحها ما تحتاجه من عناية ورعاية، فتنمو وتكبر وتزهر وتثمر. وآخرون كثيرون يهملونها، واهمالهم لها بمثابة حكم بالموت. الفُسيلة الابداعية في داخل محمد الأصفر، رغم تعرضها للإهمال، فترة من الزمن، لم تمت لحسن الحظ.
في مجال الأدب، فإن أغلب من يمتهنون حرفة الكتابة مبكراً، ولا يواتيهم حسنُ الحظ، ويخفقون في تحقيق أحلامهم، غالباً ما يغادرونها محبطين إلى مِهَنٍ أخرى. حرفةُ التجارة ، على ما يبدو، أكثر المهن استقطاباً، ولا أملك تفسيراً لذلك. بعضهم نجح في المهنة الجديدة، وحقق ما يتمنّى من ثراء وشهرة. وبعضهم لم يفارقه سوء الحظ. محمد الأصفر، قلب المعادلة رأساً على عقب، بأن جاء محبطاً من عالم التجارة إلى عالم الكتابة الابداعية، حاملاً معه فشله في أن يكون تاجراً. وعاد من رحلاته التجارية، في مختلف بلدان العالم، خائباً. فقرر ترك التجارة، بعد أن تأكد له أنه لن يحقق ما جاء لأجله، وأتجه إلى الأدب.
وهناك، لحسن حظه، وجد أنه يملك راسمالاً من حكايات وتجارب، وفرته له رحلاته التجارية. ورب ضارة نافعة كما يقولون. النفعُ أنه حقق نحاجاً أدبياً في وقت قصير نسبياً، وصار روائياً معروفاً. أما النفعُ المادي فلا أرى داعياً للخوض فيه، لأن أغلبنا يدرك تفاصيله المُحزنة.
وهذا يعني أن الروائي محمد الأصفر، من دون أن يدري، كان الاستثناء للقواعد المعروفة في عالم الكتابة. ومن عادة الكُتّاب الاستثنائيين، الذيم يفدون متأخرين إلى عالم الكتابة الابداعية، أن يكون أدبهم كذلك متميّزاً واستثنائياً. والإبداع الذي يقدّمه محمد الأصفر، من وجهة نظري، يعدُّ بكل المقاييس مميّزاً واستثنائياً. لكن ذلك التميّز والاستثناء، في هذا السياق، لا يعني أنه يجد قبولاً لدى كل القرّاء.
بعضنا، وأعني ممن ينتمون تحديداً إلى خانة حماية الفضيلة والأخلاق، قد لا يستطيعون معه صبراً، ويرفضونه شكلاً وموضوعاً. ومن حقهم ذلك. لكن ليس من حقهم حرمان غيرهم من قراءته والاستمتاع به، خاصة حين تواتي الفرص بعضهم، ويصبحون من العاملين في أجهزة الرقابة الحكومية على المطبوعات. يصدرون أحكاماً، بالحياة أو بالموت، على ما يمثل أمامهم من كتب.
محمدُ الأصفر روائي بمخيّلة خصبة، وغزيرُ الانتاج. ويبدو وكأنّه في عجلة من أمره لتعويض ما فاته. وفي الآونة الأخيرة، صدرت له رواية جديدة بعنوان “مذاق الريشة – اخريبيش.” وأتيحتُ لي، في معرض القاهرة الدولي للكتاب، فرصة الحصول على نسخة منها وقراءتها.
ما يميّز الأصفر في أسلوبه الروائي، أنّه يجعل القاريء يعتقد غير مخطيء وكأنه يجلس مع صديق بمخيّلة عجيبة، في جلسة خاصة، في مربوعة، أو في مقهى. يحكي له بسرد ممتع حكاية مُلوّنة ومشوقة، فلا يستطيع مقاطعته ولا يستطيع حراكاً من مكانه، حتى يصل إلى نهاية الحكاية. وفي ذات الوقت فإن السارد، كحكواتي، يتنقل في السرد بين اللغة الفصحي واللهجة العامية، من دون اعتبار للحدود، وبسلاسة، ويستخدم تعبيرات غاية في المحلّية،مما يزيد في نسبة التشويق.