منصة الصباح

ليبيا المتفائلة، بحدقات عيون عراقي

 خليل الطيار

بلا غرور، العربي الأكثر قدرة على اتخاذ قرارات سريعة في زمن الأزمات هو الفرد العراقي. النكبات، والآلام، والمصائب، والحروب، التي بلورت شخصيته ودبغت جلده، وقهرت حياته صيرت العراقي أيقونة للصبر والتحمل والإيثار.
فالمصيبات والرزايا في “سفر أيوب” يعدها شاعرنا العظيم السياب نعمة وليست نقمة، فهو القائل:
“لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبدّ الألم،
لك الحمد، إن الرزايا عطاء وإن المصيبات بعض الكرم”
نعم المصيبات يَصِرْنَ كرما
والرزايا عطاء، عندما يَعُدْنَ بالفائدة لاختبار الذات والمنعة والتبصر والكبرياء والإقدام. وهو ما حصل معي وأنا أتلقى دعوة من حكومة ليبيا للمشاركة في تظاهرة إعلامية!!
دعوة عشت جديلتها بين موقفين. الأول ، رغبة شخصية جامحة لرد الوفاء لموقف نبع من إنسان ليبي يحمل اسم” فوزي الغويل”هذا الإنسان الليبي الجنسية، العروبي الهوية، وقف مع العراق في أشد حاجته لتضامن أشقائه العرب، يوم أداروا ظهورهم عنه وتركوه يقاتل نيابة عنهم على سواتر العز، لإزالة شأفة الإرهاب في معركة تاريخية توحد فيها الشعب العراقي ليخرج منتصرا في أكبر ملاحم المنازلة العسكرية بالتاريخ المعاصر، لكن الماكينة الإعلامية العربية والعالمية كانت تظلل الحقيقة وتصور العراق وكأنه ذاهب للزوال!! راح هذا العربي الأصيل يدافع عن أحقية احتفاء عاصمة العراق بهذا الانتصار المشرف لتكون أول عاصمة للاعلام العربي بعد القدس تتوج بهذا التشريف! ولم يرتح حتى تحقق هذا الهدف. ويكون أول النازلين من العرب في ارض بغداد بلا خوف أو وجل. هذا الموقف بقي دينا في عنقي يضمره القلب والعقل لرد جميله..
والموقف الآخر المعارض صدر من الأهل والأصدقاء الذين اعتبروا السفر إلى طرابلس ضربا من الجنون!!! وهو موقف تبلوره خلفية صور معتمة ومشوهة نمطها الإعلام العربي والعالمي عن ليبيا كونها ساحة تصطلي بحرب أهلية، فكيف لمرء أن يجازف في “تلبية دعوة مجهولة الأمان!؟
ولأني “عراقي” دبغت جلده النوائب والمحن، وخبر من وحي التخصص لعبة وأجندات الإعلام المظلل والمخادع، فلم يفتر حماسي عن الموافقة، ولم أخضعه للتفكير ولو للحظة واحدة، وبلا تردد أرسلت موافقتي مزهوا، فقد كنت مؤمناً أني سأذهب إلى بلدٍ لن تختلف صورته عن صورة بلدي التي نمطها الإعلام الأصفر حتى صير العيش فيها كما العيش في الجحيم! بينما كانت بغداد تسهر حتى صياح ديك شهرزاد في الصباح فيسكت المرجفون عن الحديث!
وكما كان الحمام يسهر في ساحة التحرير في بغداد، وفي ميدان الشهداء في طرابلس ويمارس الناس حياتهم كما يمارسها إي إنسان في بقاع بلدان العرب والعجم.
نعم لا مناص من الاعتراف بوجود منغصات لمخرجات إدارة أهل السياسة التي لا يخلوا منها بلد على وجه الأرض، مع فارق المقاربة بالفهم والتعامل والنضج … فالسياسة تفترق وتتناحر إراداتها، لكنها ستلتقي يوما عند نقطة التقاء مشترك ….
قررت أن أكون في ليبيا ليس بوصفي ضيفا بل شاهدا محملا بتجربة بلد مر بنفس الظروف التي تمر بها، والتي تتطلب مسؤولية الوفاء ورد الجميل أن يسعى بمهنية وأخلاقية ومسؤولية الإعلام على تبديد هذه الصورة المشوهة التي يسوقها الإعلام المغرض ويعكس الصورة الحقيقة والصادقة لِمَا يجري على أرض الواقع.
وجوه مضيفات طاقم طائرة الأجنحة الليبية كانت أول إشارات التواصل مع شعب ليبيا، فالابتسامة والتفاؤل بالتحليق بأمان إلى سماء طرابلس المحبة انطبعت بحفاوة الترحيب حتى كان مطار “معتيقة ” المحطة الأولى ومنذ أول ابتسامة افترشت وجه موظف استقبلنا وكأنه يلتقي بأخ افتقده منذ زمان. هل أنت فلان!؟ قلت نعم فرد محتضنا يا مرحبا بك في بلدك! جملة فندت كل أوهام المشهد المعتم المسوق لنا إعلاميا والذي لم يكن منه شيء في قلبي وعقلي. جلست أنتظر الإجراءات واثقا رغم فقر المكان لأن المطار تجرى أعمال تأهيله بإيقاع سريع ليكون بديلا مؤقتا قبل الانتهاء من إنجاز تأهيل المطار الدولي، فغدا المكان ليس هو الأثر الشاخص، بل مكان القلوب التي وجدتها عامرة بالإيمان والمحبة والاشتياق لكل شيء يحمل اسم”العراق” وشعرت بنبض قلوب رجال المراسم الذين كانت أياديهم تتسابق لاحتوائي وتتنافس لتناول الحقائب وإنهاء إجراء التأشيرة، لم يقبلوا أن أمد يدي لحمل حقيبتي، كانوا يتسابقون من أجل أن تكون كل أيادي شعب ليبيا هي الممتدة نحوي، وحاضرة بتاريخه وطيبته وكرمه.
تحركت سيارة التشريفات مارة بشوارع طرابلس، كانت عيوني متعطشة لتمسح كل شبر نمر به، لم أجد متراسا أو اسمع طلقة، ولم أرى دخانا ولم أرى عسكرة للحياة، كل ما وجدته وجوه ضاجة بالأمل والتفاؤل رغم آثار الطلقات الجاثمة على صدور بعض البنايات، لكنها بدأت مرتاحة لبقائها واقفة لم تنهار، وتسعى لتنظيف صبغة جلدتها متطلعة لحياة جديدة.
الليبيون قد يتحدثون في جلساتهم الحرة عن هموم نقص الخدمات ومعاناة وصعوبة العيش، كما نتحدث بها نحن في العراق، لكن الكل يجمع بلا استثناء أن ليبيا لا يمكن أن يسمح لها أن تموت! نعم يختلفون كما نختلف في في مواقف خلاصنا من المحن والشدائد، لكن لا يختلفون على وحدتها وبقائها صامدة لا تنهار، كما في قمة المنعطفات التي واجهت العراق في حربه الضروس ضد التنظيمات الإرهابية، إلا أن كل خلافات الفرقاء ذابت وتوحدت مواقفهم والتقت عند نقطة مشتركة مفادها “نختلف في وجهات النظر، لكن لم نبع وطنا للأعداء، ولن نسمح بضياعه ومصادرته من قبل الآخرين” فتوحدت الإرادة لقطف النصر. والذين راهنوا على نهاية العراق فشلوا وولوا الأدبار، وتركوا العراقيين يبنون بلدهم بصبر وإن توجعوا داخليا لكن لم يعد يصغون لصوت الخارج، المفرق والمشتت لوحدتهم ليعود العراق قويا موحدا.
هذا ما وجدته مكتوبا في عيون وكلمات وإرادة كل مواطن ليبي قابلته وتحدثت معه.
نعم قد يختلف الليبيون في وصف حالهم، لكن جميعهم يتوحدون في النتيجة: إن ليبيا ينبغي أن تبقى بيتهم الأوحد.
الليبي ورث مقولات المقاومة عبر تاريخ من الحضارات التي مرت على أرضه وقهر تعسفها ببسالته وقوة إرادته، فلا تؤده قدرة أن ينجح متسام على جراحاته، ليعود صلبا قويا…
وهو ما تحقق في أيام عشنا فيها اياما تجلت فيها طرابلس عاصمة للإعلام العربي، وقدمت نموذجا لشعب صنع ملحمة الكبرياء بتاريخ حافل بالمجد والكبرياء وجسدت صورته الناصعة، أوبريت ختمت فيه طرابلس احتفالها لترينا فيه مشاهد مثيرة للمقاومة وتسمعنا صوتا صافيا بلا أحقاد الحاقدين، رددت أناشيده حناجر صدحت بقوة أن هذه البلد لن تستلم إما تنتصر أو تنتصر …
ولرحلتنا قصة …. لم تنته
اسمها ليبيا حية لا تموت.
——————
*عضو لجنة السرايا الحمراء لصحافة السلام
ووكيل وزارة الاتصالات السابق بالعراق

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …