منصة الصباح

ذاتَ صباح في مطار بيروت

زايد..ناقص

جمعة بوكليب

 

تمنّيتُ لو أنَّ شرطيَ الجوازات، في مطار بيروت الدولي، عبر الحاجز الزجاجي الفاصل  بيننا،  رفع عينيه عن جواز السفر أمامه، ونظرَفي عينيّ لحظة قصيرة، ولوخطفاً. إذ ربما لو فعل ذلك، لكان بإمكانه، من دون شك، رؤية  ما أحضرتُ معي من هدايا، على شكل صِرارٍ، متنوعة الأحجام والألوان والأشكال، من حب ولهفة وشوق وحنين وفرح إلى بيروت، وهي تستيقظ لتوّها من النوم، وتتهيأ لاستقبالي بعد غياب، وتتفتح، كعادتها، وردةً في دفء شمس صباح يوم  آخر، لا يقل إدهاشاً ودفئاً  وأُلفة عن سابقه، ولا عن لاحقه.

تمنّيتُ لو أن ذلك الشرطي الشاب، ببزته الرسمية، تأنّى قليلاً،  وتوقفَ عن تدقيقه فيما هو مطبوع من معلومات في الجواز، تُعرّف بحامله الواقف أمامه- أنا، ورفع  رأسه قليلاً، وترك عينيه السوداوين تستقران على ملامح وجهي  للحظة، ولو خطفاً. إذ  ربما، لو فعل ذلك،( ليته فعل ) لكان رأى، قبل أن يسألني مستفسراً عن موطني الأصلي، اشتعال شوق طفولي في تلك الملامح الكهلة. ولربما رأى  ما ظل ثابتاً وأصيلاً ومتقداً،  في تلك الأخاديد، من ودّ قديم و صحبة جمعتنا.  وكيف، رغم مرور السنين، أزهر ذلك الودّ فجأة،  متفتحاً بالبهجة، وأنا أتهيأ فرحاً للانفلات في صباح أحياء وشوارع بيروت بعد غيبة سنوات؟

لكنَّ رجالَ ونساءَ الجوازات هم رجال ونساء الجوازات،  أينما كانوا، سواء احتشدوا  في مطار بيروت، أو في غيره من مطارات العالم الأخرى. وهم، من خلال خبراتي المتعددة في التعامل معهم،   ليسوا بشراً من لحم ودم ومشاعر، مثل بقية خلق الله. بل هم، في رأيي، على اختلاف ألوانهم وجنسياتهم، وألسنتهم ولا مبالاتهم ، مجرد ( روبوتات) آلية، تشحن يومياً بتعليمات تتجدد باستمرار من مراكز قيادات أمنية بعيدة، وبعدها يوضعون في أماكنهم المعهودة في المطارات ومعابر الحدود، داخل مكعبات صغيرة تصنع، في العادة، من الواح المنيوم و قطع زجاج، ويتركون هناك، من دون حاجة للتورط في أحاديث مع مسافرين زائرين، أو مغادرين.

رجال ونساء شرطة الجوازات، في المطارات، وفي المراكز الحدودية أينما كانت، حتى عندما يبتسمون للقادمين والمغادرين، فإن تلك الابتسامات، لدى التدقيق فيها، تعطي المرء إحساساً بعدم الارتياح، وتشعره بأنها غير بشرية، بل جزء من تفاصيل مهنية أمنية كثيرة جداً،  تشحن بها الروبوتات. ما يهمهم هو أن يشعروك بأهميتهم وخطورتهم. وما يفرحهم حقا هو أن يسدوا المنافذ أمامك ويقلقوا راحتك.  لدى انتهاء الدوام،  يهرعون هاربين عائدين إلى مراكز الشحن الكهربائية، ويظلون هناك، جنباً إلى جنب، حتى اليوم التالي.

تمنّيتُ لو أن ذلك الشرطي، في مكعّبه الرسمي، المصنوع من المنيوم وزجاج، وببدلته الرسمية، تريّث قليلاً، ورفع عينيه نحوي، ونظر في عينيَّ الكهلتين للحظة قصيرة، ولوخطفاً. إذ ربما لو فعل، لكان رأى واضحاً بين الجفون ما حاولت إخفائه من ألم وحزن وإحباط وغضب.  ولربما رأى الصدع الذي أحدثه في قلبي، وهو،  يتلو على مسمعي تعليماته بحظري من الدخول، ويحول بيني وبين لقاء بيروت، ذلك اليوم الشتائي، ويأمر بتحويلي إلى قاعة حجز قذرة مثله، ومثل رؤسائه وتعليماتهم و مطارهم، حتى يحين موعد ترحيلي على أول طائرة عائدة إلى مطار زيوريخ.

منذ ذلك اليوم البعيد، وإلى يوم الناس هذا، لم أزر بيروت ثانية،  ولم أعرف سبباً أو أسباباً، حالت بيني وبين عبور بوابة الجوازات تلك الزيارة الأخيرة،  وحرمتني ظلماً من لقاء مدينة، أحمل لها في قلبي أجمل الذكريات.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …