زايد…ناقص
جمعة بوكليب
في يوم 23 سبتمبر 1973 توفي شاعر تشيلي العظيم بابلو نيرودا، وهو في التاسعة والستين من عمره. موته، وفقا لشهادة الوفاة الرسمية الصادرة عن المستشفى، كان نتيجة إصابته بسرطان البروستاتا. الوفاة كانت بعد اثنى عشر يوماً من انقلاب الجنرال بينوشيه على الحكومة المنتخبة ديمقراطياً برئاسة سلفادور الليندي. مساعد نيرودا المسمى “مانويل ارايا” يخالف ما تقوله شهادة الوفاة، ويؤكد أن نيرودا مات مسموماً، نتيجة حقنه بحقنة سامة في المستشفى.
“المذكرات الكاملة” لشاعر تشيلي بابلو نيرودا صدرت، أول مرة باللغة الإسبانية عام 1974 بعد وفاته، وبإشراف أفراد من عائلته. وفي عام 1976 صدرت ترجمة لها باللغة الانجليزية عن دار نشر أمريكية في نيويورك تسمى “فارار ستراوس اند جيرو- Farrar, Straus and Giroux.” والنسخة التي بين يديّ صدرت عام 2021، عن نفس الدار، وهي نسخة منقحة ومزيدة بفهرس.
نيرودا كان شاعراً عظيماً، وكان أيضاً دبلوماسياً. وعمل قنصلاً لبلاده في العديد من بلدان العالم. وفي مذكراته خصص جزءاً غير قصير للحديث بالتفصيل عن تجاربه في عالم الدبلوماسية. وروى في مذاكرته العديد من القصص والمغامرات التي حدثت له خلال عمله القنصلي في الخارج، وما تعرّض له من مقالب. والشخصيات التي التقاها خلال تلك الرحلات، سواء من رجال السياسة أو من الشعراء والمثقفين والكُتّاب. وقد تكون أجمل أيامه التي قضاها في مدريد، صحبة الشاعر الاسباني فيديريكو لوركا وصديقه رافائيل البرتي، وغيرهم من الكتّاب والمثقفين الأسبان.
من ضمن حكاياته، واحدة أثارت اهتمامي وأحببت مشاركتكم تفاصيلها. وحدثت خلال فترة عمله في قنصلية بلاده في المكسيك. يقول نيرودا إن النظام السياسي في المكسيك، في تلك الفترة الزمنية (1941) كان” أكثرديمقراطية ديكتاتورية يمكن للمرء تخيّلها.” وأن كتّاباً ومثقفين من أوروبا جاءوها هرباً من أهوال الحرب، وخصوصاً من فرنسا بعد استيلاء القوات النازية على بلادهم. خلال وجوده بالمكسيك، قرر الشاعرالقيام بزيارة إلى غواتيمالا، وكان مُحبّا للسفر والتجوال. وهناك التقى بالروائي “ميغيل أنخيل أستورياس”. وأقام عنده لمدة أسبوع. يقول نيرودا أن غواتيمالا كانت، وقتذاك، تحت حكم ديكتاتور يدعى أوبيكو. وكان الغواتيماليون يعيشون في رعب وخوف منه. وأنتشر جواسيسه في كل مكان. وكان نيرودا وصديقه الروائي يستقلان السيارة ويذهبان في رحلات إلى أماكن بعيدة جداً، حيث يمكنهما الحديث في مأمن من عيون وأذان البوليس. وحدث، أثناء وجوده هناك، أن مجموعة من شعراء غواتيمالا طلبوا منه أن يقرأ لهم بعضاً من قصائده في صالة عامة. وأرسلوا برقية إلى الديكتاتور أوبيكو شخصياً يستعطفون موافقته، فأذن لهم.
في اليوم المخصص للأمسية حضر أصدقاء نيرودا والعديدُ من مُحبي شِعره. قال نيرودا إنّه كان سعيداً بالأمسية لأنها “كانت بمثابة صدعٍ في نوافذ سجن كبير.” لكنّه لاحظ ان رئيس البوليس كان حاضراً، وجالساً في الصف الأول. بعد نهاية الأمسية، عرف الشاعر أن أربعة رشاشات آلية كانت مخفية، وموجهة نحوه بهدف قتله. وأن الخطة المصممة تقوم على إطلاق النار مباشرة، في حالة قيام رئيس البوليس من مكانه، والخروج من الصالة. لكن رئيس البوليس بقي جالساً في مكانه، ونجا شاعرنا من الموت.
عقب الأمسية، زاره شخص غواتيمالي معروف، وعرض عليه مقابلة الديكتاتور أوبيكو. تردد نيرودا في قبول الدعوة، لكن أصدقاءه الغواتيماليين، حذّروه من مغبة رفضها وعدم الذهاب. يقول نيرودا:” أبلغوني أنّه من الخطورة بمكان رفض العرض، إلا أنني كنت أفضل عدم مصافحة يده. لذلك عدتُ إلى المكسيك، وبأسرع ما يمكن.”